قبل نحو ستين عامًا، كانت الحاجة سعدية عبد السلام هنية (68 عامًا) التي تُكنى "أم رائد" ولم يزد عمرها آنذاك عن ثماني سنوات تجلس أمام عيادة الوكالة في انتظار وضع أمها مولودها الجديد تنتظر الطفلة بتلهف قدومه، في لحظة غلب النعاس والدها المسن وبقيت الطفلة تنتظر وضع المولود الذي سمعت صوت قدومه للدنيا، فانطلقت راكضة توقظ والدها وتبشره بمولود ذكر بعد ست بنات، فقال برضى "الحمد لله الذي وهبني على الكبر إسماعيل".
بين زقاق مخيم الشاطئ بمدينة غزة الذي يروي كل ركن فيه حكاية شعب مهجر، ترعرع هنية بين ثماني شقيقات وشقيق آخر اسمه خالد توفي قبل سنوات، فكان والده المسن يصحبه معه للمسجد حتى نشأ بين جدران المساجد وحلقات القرآن الكريم الذي لم يفارقه، فتوفي والده أثناء دراسته الثانوية، وأصبح رئيس مجلس الطلاب بالجامعة الإسلامية ويولد من المخيم قائدًا ضج العالم باسمه وسيرته بعد أن أصبح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.
فجر اليوم وبعد ستين عامًا من حياة طيبة وفخر واعتزاز لأم رائد بشقيقها الذي يقود نضالات الشعب الفلسطيني وعاش مراحل عديدة من ثورته، أفاقت على الفاجعة وتلقت خبر الاغتيال بصبر واحتساب في لحظة تجمع في ذاكرتها ذكرى الميلاد والموت، تكوي قلبها جمرات الحزن، وهي تستحضر آخر مكالمة جرت بينهما قبل عشرة أيام عندما قال لها القائد هنية بعد أن ذكرته بمرور السنين وتقدمهما بالسن: "حياتنا طولت يختي صرت 60 سنة".
المكالمة الأخيرة
من تلك المكالمة الأخيرة تبدأ أم رائد حديثها لـ "فلسطين أون لاين" فتقول والحزن يغلف صوتها "قلت له: لسى بدنا إياك يخو" فرد علي: الحياة في الجنة أفضل، فكان يرى القدس بين عينه ويمني النفس أن يصلي فيها ويفتحها بيده، ودائما يرى ذلك قريبا ويردد: "إن النصر صبر ساعة وإن الفرج قريبا وسيأتي بعد العسر".
سبق المكالمة، حديث آخر جمعها بشقيقها القائد عندما استشهد 8 من أولاده وأحفاده في مجزرة إسرائيلية بمخيم الشاطئ صبيحة يوم العيد، "عندما حاولت منحه كلمات صبر وثبات نزلت دموعي فبكيت، وبقي هو ثابتا صابرا، فقام بتهدئتي وقال: "هؤلاء الآن بالفردوس الأعلى والأطفال في حواصل خضر؛ يا أم رائد أنت من تدعين الناس تبكين الآن؟" تحضر الدموع حديثها.
تحاول الحاجة أم رائد الاتكاء على عكاز الصبر تمر عليها مراحل من حياته"كان مرابطا مجاهدا اعتقل لدى الاحتلال وأبعد لمرج الزهور لعام كامل في الثلج والبرد، حاولوا اغتياله مرات عديدة، رجل صامد صادق النية يده نظيفة، شريف طاهر ليس لديه شيء من الخيانة، مخلص لله ولوطنه ودينه وقدس دائما يقول: إن شاء الله سنصلي في القدس قريبًا، اغتالوه لأن الجميع خنع، وهو الذي قال: "لا" ورفض أن يحكم غزة غير فلسطيني".
حياة المخيم
بعمر ست سنوات وأقل من ذلك غرس والدها حب القرآن في قلب شقيقها، تعود لتلك الطفولة: "كان أبي يتكئ عليه ويأخذه للمسجد، فصعد إلى المنبر وألقى أول خطبة وهو بعمر 15 عاما، كان متفوقا عن أولاد جيله وانضم لحركة حماس وكان الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة يحبه ويجعله قريبًا منه حتى نهل أخي أبو العبد من صفات الشيخ وكان مستشاره في كل صغيرة وكبيرة".
الجميع دائما يشاهد القائد هنية في المؤتمرات ويستمعون لكلماته الخطابية، لكن كيف كانت شخصيته في العائلة؟ تجيب شقيقته بعد أن انتزع السؤال ابتسامة متوارية خلف أحزانها: "كان رحيما على شقيقاته وبناتهم، يزور الجميع ويتفقد الكل، ويسأل عنا، لم يشغله السفر ولا كل الضغط الواقع عليه عن الاتصال بينا والاطمئنان علينا وكان سندنا الوحيد في هذه الدنيا بعد الله بعد أن توفي أخي خالد".
تستحضر بعض المواقف التي علقت في ذاكرتها "أذكر أنه جاءني قرب منتصف الليل ليطمئن علي كوني مريضة، وأبلغوه أنني كنت متعبة، ويتأسف أنه تأخر في زيارتي، وأحيانا كان يترك مكتبه ويأتي للاطمئنان علي إن حدث مكروه، كان متواضعا يتمتع بروح طيبة، أطيب من الطفل الصغير، وإذا تأخرنا عن زيارته كان يطلب من أبنائه الاتصال بنا لنأتي لزيارته".
يطرق صوته أبواب ذاكرتها "عندما كنا نجلس معا، كان بشوش الوجه مبتسما دائما، تحب جلسته، يبتسم مع الأحفاد والأولاد والشقيقات"، وتردف بحسرة "الأرض كلها تبكي عليك يا أبو العبد اليوم".
الرجل السياسي الصلب الذي كانت كلمته دائمًا "لا" في كل من يريد نزع تنازل واحد منه تجاه القضية الفلسطينية، كان لا يرفض طلبا لكل من يقصده من أبناء شعبه سواء أثناء سيره مع مرافقيه بالطريق أو لمن يأتيه لطلب المساعدة لمكتبه، يستمع لمعاناتهم.
أسهمت حياة المخيم بصقل شخصية القائد هنية، فحمل على عاتقه قضية اللاجئين كما حمل قضية القدس والأقصى، وبقي في المخيم خلال تواجده في قطاع غزة وقبل ترأسه المكتب السياسي، وكان يعتبر بيته في المخيم "بيت عز وكرامة وفخر واعتزاز ورثه عن والده" رافضا الخروج للسكن خارج المخيم.
تصف شقيقها بـ "الرجل المتواضع" الذي كان يأكل مع الكبير والصغير، ويمشي بين الناس، ويعيش بين الفقراء، يزور المرضى ويساعدهم، يتفقد الجميع، كان طعامه متواضعا مثل صفاته فضل الحياة البسيطة في المخيم على بيوت فاخرة خارجه.
تعتقد شقيقته أن اغتياله كان انتقاما لمواقفه الصلبة، بعدما حاولوا انتزاع تنازلات منه باستهداف أولاده وأحفاده، وعندما قال لهم بعد استشهاد أبنائه "لو ذهب كل أبنائي وعائلتي لن أخضع" فاغتالوه.