قائمة الموقع

"الطريق الآمن" كان فخًا قاتلاً لـ "عبد الله" أثناء لحاقه بعائلته

2024-07-27T13:52:00+03:00

"أبحث عنك في الصور كل يوم .. أقلّب في مقاطع الفيديو وأحاول أن أضع تركيزي كله في صوتك فقط، لا أود أن يغادرني أبدًا، لا أمل ولا أكل من ذلك، وكلما هممت في الكتابة عنك لا تسعفني الكلمات ولا الأحرف، كلها عالقة في المُنتصف المميت، أود الحديث عنك لكل من أراه وأرى الكلام فيك يطول ويطول، فأختصر وأقول: بطلي وسندي البريء" يقف الجرح في منتصف محاولة فرح الأغا التأقلم على حياة تفتقد فيها شقيقها الشهيد عبد الله الأغا (19 عامًا) من سكان محافظة خان يونس.

كان عبد الله يحبُ الحياة تجده بين الأشجار والطبيعة يشارك عائلته رحلاتهم الترفيهية ويزينها بابتسامة لا تفارقه فأضاف حضورا مميزًا له، يحبُ الطموح والارتقاء التعليمي إلى أبعد حد فكان يدرس الصيدلة، ويحمل القرآن في قلبه كمنهج حياة، كان من أهل القرآن، ترعرع بين جدران المساجد وحلقات التحفيظ حتى كبر وأصبح الحافظُ مُحفّظًا شارك بمخيم "صفوة الحفاظ 2" قبل العدوان على غزة بتلاوة القرآن على جلسةٍ واحدة، وكانت أكبر طموحه قبل أن يرحل.

الممر المميت

يوم 12 يناير/ كانون ثاني 2024، كان عبد الله ينوي اللحاق بعائلته التي نزحت من شرق المحافظة نحو غربها، حمل حقيبة على ظهره تحتوي على أهم أغراضه، سجادة صلاة والقرآن وكتابًا كان يقرأه بعنوان "إماءة الألباب في الأخلاق والآداب" سالكا "ممرا آمنا" حدده الاحتلال للنازحين، لكن فقدت آثاره في ذلك اليوم، فكان "ممرًا مميتًا".

ظلت عائلته تجهل مصيره على مدار شهرين، فلم تترك بابًا من المنظمات حقوق الإنسان وجيران وأصدقاء إلا وطرقته بحثًا عن نجلها المفقود، حتى جاء 5 مارس/ آذار من العام ذاته، فكانت العائلة على موعد مع الفاجعة بعد البحث والسؤال الذي لم يتوقف فكانت توقعاتهم ذاهبة إلى أنه معتقل لدى جيش الاحتلال.

"لم نكن نعرف عنه أي شيء، وصلتنا بعض الروايات التي أخبرتنا أنه معتقل وأخرى أنه بخير، وعندما انسحبت قوات الاحتلال من خان يونس بحث عنه مجموعة من الشباب، كثيرون كانوا متلهفين لأي خبر عنه، فوجدوه ملقى على الأرض شهيدًا، ويظهر عليه آثر رصاصة قناص في قلبه أو رقبته، كان يحمل حقيبته" الحزن يملأ قلب شقيقته وهي تروي لـ "فلسطين أون لاين" قصته شقيقها.

في آخر فترة، تحاصرت عائلته قبل النزوح بفعل اجتياح جيش الاحتلال لمنطقتهم، فكان عبد الله يوفر المياه لوالديه، تعلق مشاهد من تلك الأيام بذاكرة شقيقته: "كان همه أن يجد والدي سعيدين، وعندما كانت الدبابات تحاصرنا، كان يذهب لأمي ويسمع لها القرآن الكريم".

عبد الله الملقب بـ "دينمو الحارة" كان يتجول على بيوت الجيران قبل النزوح القسري، يجتهد في توفير المياه، كانت أمنيته أن يؤدي مناسك العمرة التي حاول والده تسجيله فيها لكن تلك المحاولات لم تنجح، وبعد استشهاده أداها عنه أقرباء ومعارف.
تتدفق الذكريات أمام شقيقته عن دوره في خدمة الناس خلال الحرب "كون لدينا طاقة شمسية، كان يشحن بطاريات وهواتف الجيران كون

الكهرباء منقطعة منذ اليوم الأول للعدوان، ومن ناحية أخرى كان يتجول على الناس ويطرق أبوابهم لتعبئة المياه في خزاناتهم إن كانوا محتاجين لها".

بصوتها المليء بالفخر تشيد بدوره الإنساني "طوال حياته معروف عنه بالشاب الخدوم الكريم الذي يحب المساعدة، حتى أنهم عثروا بحقيبته على أمانة كان ينوي إيصالها لأحدى العائلات المحتاجة".

تميز الشاب الطموح بحب التجارب العلمية وكان يحب الكيمياء ويقول دائما "لو أستطيع الدمج بين الشريعة والصيدلة"، فتخصص بالصيدلة وتعلم الشريعة بين جدران المساجد.

صاحب الأثر

"رأيتك رافعًا أصبع السبابة رغم أنه مضى على ارتقائك 55 يومًا، رأيت شعرك ووجهك وأنت مسجى على الأرض بدون تغيير كأنك على قيد الحياة. لم تحمل يوما سلاحًا إلا سلاح العلم والقرآن، ومحبة الخلق فيك .. شل الله من اغتالك بدم بارد" هكذا رثاه والده في منشور كتبه.

أما شيخه عبد العال الأسطل فقال عنه "كنت يا عبد الله من أخف الطلاب مؤنة على شيخك، فلم تتعبني كثيرا، تأتي بالمطلوب ولا تسأم من نصحي إياك، ما جعلك تنجز حفظ القرآن الكريم في فترة وجيزة، فضلا عن أدبك الجم، وخلقك الراقي في التعامل مع أشياخك".

يتوقف شيخه عند إصرار عبد الله "العجيب على المشاركة في صفوة الحفاظ الثاني"، يقول الأسطل مخاطبًا روح الشهيد: "لربما خالفتني هذه المرة ولم تستمع لي – وقد أحسنت – حينما أشرت عليك بتأجيل مشاركتك للعام القادم نظرًا لأن حفظك ما زال غصًا طريًا، أذكر هيئة بريقك عينيك وأنت تحاول إقناعي بأنك قادر وتستطيع".

بعد أن أتم التسميع في صفوة الحفاظ كتب عبد الله منشورا في آب/ أغسطس 2023 بعبارات يملؤها الفرح واصفًا ما جرى: "هو يومٌ سجلت فيه هدفًا وأمنية عظيمة كنت أطمح لها من سنين، كنت أظن أن الوصول إليها صعب، غير أن رحمات قوله تعالى: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" كانت تحل بي، فمن هنا يأتيني الحافز والتشجيع من حيث لا أحتسب".

هذه الفرحة هي نفسها التي عبر عنها عبد الله في أول منشور كتبته على فيسبوك عندما أتم حفظ القرآن وكان عمره لا يتجاوز 14 عاما " الحمد لله الذي هدانا لطريق الخير، اسأل الله ان يلهمني إياه دوما، وشكرا لمن علمني حرفا وعلمني حكما وعلمني اخلاقا شخصي استاذي عبد العال الاسطل".

كما كسب عبد الله حب مشايخه في حلقات القرآن، كسب قلوبهم بين مقاعد الجامعة فرثاه أستاذ اللغة العربية بلال أبو عمر قائلا: "أرثيك بالدمع بل أبكيك بكل لغات أهل الارض، طالبي المتميز الوقوف الخلوق الجميل الأصيل صاحب السمت الحسن والصمت الجميل، صارحته مرارا بأن أهل القرآن لهم في قلبي مكانة خاصة وجدته متمسكًا كثيرا بالقرآن حتى بين الحصص يراجع ويسمع، ضحكته الكبيرة وحبه للجميع وحب الجميع له".

تختم شقيقته "أكثر ما يشدنا فيه هو نبرة صوته التي لا تفارقنا، ضحكته الجميلة الصافية النقية، دائما تجده يفتح الهاتف أو يمسك المصحف ويقرأ ويرتل، حتى أن شقيقتي رأته في المنام يحمل القرآن معه".

اخبار ذات صلة