لا يوجد سؤال تبدو إجابته أكثر بداهة من عنوان هذا المقال: "لماذا لا توافق المقاومة الفلسطينية على وقف الحرب في غزة؟"، ومع ذلك فإنه يطرح كل يوم مئات المرات في الإعلام العربي، ووسائل التواصل الاجتماعي.
لو كان هذا السؤال مجرد جزء من حملات دعائية لإعلام عربي ينطق عمليا باسم جيش الاحتلال، لما استدعى محاولة التفكيك، ولكنه يطرح أحيانا كثيرة من قبل كتاب ونشطاء يقفون على أرضية الحقوق الفلسطينية، ومن بينها حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال، ولهذا فإنه يحتاج لبعض النقاش.
إن الإجابة المباشرة على هذا السؤال هي بنفي مشروعية طرحه أصلا، من الناحية العلمية، لأن من يرفض إيقاف الحرب هو الاحتلال، بل إن النقاش السياسي داخل الكيان المحتل يؤكد أن من بيده وقف الحرب ولا يريد ذلك، هو بنيامين نتنياهو شخصيا. لقد طالبت حماس وفصائل المقاومة المختلفة بوقف العدوان على غزة منذ اليوم الأول، ولكنها قوبلت دائما بالرفض والتعنت "الإسرائيلي"، وبالتالي يصبح السؤال عن رفض المقاومة لإيقاف الحرب غير ذي صلة بالواقع.
وللدلالة أكثر على بداهة الإجابة عن سؤال "رفض" المقاومة لوقف الحرب وعدم صحة طرحه من الأساس، فلا بد من العودة للسبب الرئيسي الذي عطّل كل عروض صفقات التهدئة، وهو إصرار المقاومة الفلسطينية على أن ينص الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، فيما يصر نتنياهو على أن أي صفقة يجب أن تضمن "حق" الاحتلال بشن هجمات في غزة، بما يعني أنه يريد استمرار الحرب في الوقت والطريقة التي تناسب "إسرائيل"، بغض النظر عن ما تتوصل له مفاوضات التهدئة.
إن هذا "الشرط" الذي وضعته المقاومة الفلسطينية لعقد اتفاق لوقف إطلاق النار هو بالضبط ما يؤكد أن الاحتلال هو المسؤول عن استمرار العدوان، إذ كيف يمكن اتهام الطرف الذي يشترط "وقف الحرب بشكل دائم" لتوقيع اتفاق التهدئة بأنه المسؤول عن استمرار العدوان؟
ثمة آراء تقول: إن التمسك بهذا الشرط غير واقعي، لأن الاحتلال قادر على شن الحرب في أي وقت، حتى لو وقع اتفاقا لوقف دائم لإطلاق النار، وبالتالي فإن استمرار رفض "التهدئة" لا يفعل شيئا سوى أنه يطيل الحرب بدون معنى. صحيح أن الاحتلال يستطيع شن عدوان في أي وقت يريده بسبب الفرق الهائل في موازين القوى وامتلاك سلاح الطيران الحربي، ولكن تنفيذ مثل هذا العدوان بعد اتفاقية وقف إطلاق دائم للنار سيكون أكثر صعوبة ـ وإن لم يكن مستحيلا ـ لعدة أسباب:
أولها أنه سيزيد انكشاف جرائم الاحتلال أمام العالم والقانون الدولي، وثانيها أنه سيعمق انقسامات المستويين السياسي والعسكري في منظومة الاحتلال، وثالثها أن اتفاقا دائما لوقف إطلاق النار سيتضمن حتما انسحاب الجيش "الإسرائيلي" من قطاع غزة، وبالتالي سيجعل خيارات الاحتلال في حربه محدودة بالغارات الجوية.
ليس هناك ما يضمن بالطبع أن الاحتلال سيلتزم باتفاقاته، وهو لم يلتزم أبدا طوال تاريخه، ولم يراع القانون الدولي والرأي العالمي بشكل حقيقي يؤثر على خياراته، ولكن نقض اتفاق لوقف إطلاق النار بعد كل هذه الشهور من الجرائم والعدوان والقتل، سيجعل موقفه حرجا حتى أمام حلفائه.
يطرح أيضا سبب آخر لتأخر وقف الحرب وهو "عدم موافقة حماس على التخلي عن حكم غزة". والحقيقة أن هذا الطرح أيضا يخالف الوقائع المعلنة من جميع الأطراف، فقد أكدت فصائل المقاومة الرئيسية المشاركة في الحرب (حماس والجهاد الإسلامي) أنهما توافقان على أي ترتيب لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء العدوان بشرط أن يكون الترتيب فلسطينيا وليس مفروضا من قبل الاحتلال. أما السلطة الفلسطينية فقد وافقت هي الأخرى على لعب دور في حكم غزة بشرط أن يشمل هذا استعادة الوحدة السياسية مع الضفة الغربية، فيما يظل الاحتلال هو الطرف الوحيد الذي رفض كل طروحات "اليوم التالي"، بل لم يحدد خطته الواضحة لذلك أصلا، حيث يرفض وجود حماس، والسلطة الفلسطينية، ويرفض أن تشمل ترتيبات ما بعد الحرب أي حل سياسي يضمن للفلسطينيين جزءا من حقوقهم الوطنية.
إن استمرار العدوان على قطاع غزة له عدة أسباب ليس من بينها موقف المقاومة الفلسطينية، وهذه الأسباب هي: أن الاحتلال يريد استمرار جرائمه في القطاع، وفرض سيطرته على حياة الفلسطيني سواء في غزة أو الضفة، وأن نتنياهو يرى في استمرار الحرب سبيله الوحيد للنجاة من المحاكمات بعد خسارته للحكم، وأن كل هذا الصلف والإجرام الإسرائيلي لا يجد ردا عربيا أو عالميا يوقفه.
باختصار، إن لوم الفلسطيني على استمرار قتله من قبل الاحتلال، هو لوم للضحية، حتى وإن كان مغلفا بخطاب "الواقعية السياسية"!