لا شك في أن معادلة العلاقات الفلسطينية الداخلية _ولا سيما بين فتح وحماس_ دخلت، أو مرشحة للدخول في مرحلة جديدة، وقد تُعدد أسباب كثيرة لهذا التطور أو التغيير، ولكن السبب الرئيس يعود إلى تغير الموقف الرسمي المصري الذي أصّر على استعادة الملف الفلسطيني، ولقي تجاوبًا من حركة حماس، عبر عن ذلك وفد حماس برئاسة يحيى السنوار الذي عقد تفاهمات مع مسؤولي المخابرات العامة المصرية، أهمها ما يتعلق بالأمن القومي المصري في مواجهة التمرد في سيناء، إلى جانب ما يتعلق بالعلاقة الحماسية – المصرية في قطاع غزة أولًا، فضلًا عن تفاهمات بين حماس ومحمد دحلان بإشراف مصري.
لا شك أن لكل طرف أسبابه ودوافعه الآنية _في الأقل_ في الوصول إلى هذه التفاهمات، ولكن من دون أن يغيّر من طبيعته وأهدافه الأساسية شيئًا؛ فهاتان (الطبيعة والأهداف) كانتا وراء ما حدث من صراع وتأزم وقطيعة في السابق.
الأمر الذي يفترض أن يُفهَم، ويُعامَل ما أشير إليه من تطور وتغيّر ضمن هذه الموضوعة ليبقى الباب مفتوحًا على احتمالات، علمًا أن ما يقود السياسة ليس الطبيعة والأهداف والمصالح، وإنما موازين القوى والظروف والمعادلات المحيطة بكل طرف، لأن موازين القوى وتلك الظروف تحددان إلى أي مدى في كل مرحلة يستطيع الطرف المعني أن يذهب بطبيعته وأهدافه ومصالحه دفاعًا وهجومًا، وتوسيعًا، وتضييقًا، فمن دون ذلك لا يمكن أن تفسّر الإستراتيجيات والسياسات وما يحدث من تغير وتطور وتقلب، وهو ما يقود دوافع كل طرف في اللحظة المعطاة عند التصادم أو التفاهم، على سبيل المثال.
هذه التفاهمات المفاجئة أجبرت محمود عباس على أن يعود إلى مصر، مرة أخرى، بعد تجاهل ورهان على دونالد ترامب، على ذلك دلّت تحركاته الأخيرة تجاه ترامب، وإعلان ما يشبه الحرب الحامية على حماس وقطاع غزة بإجراءاته التي تركت القطاع بلا كهرباء ولا ماء صالحًا للشرب، ومحرومًا الدواء ومستحقاته المالية، وقد أراد منها أن ينفجر القطاع ضد حماس، أو تأتيه مستسلمة.
عودة محمود عباس إلى مصر فتحت الباب أمامها لتتحرك فورًا باتجاه المصالحة بين فتح وحماس، وإنهاء الانقسام، وهو ما عبرت عنه الزيارة الخاطفة للواء خالد فوزي وزير المخابرات العامة إلى رام الله وقطاع غزة، وقد ساعد على ذلك ما أعلنته حماس من حلٍّ للهيئة الإدارية، والطلب من رامي الحمد الله رئيس حكومة رام الله أن يأتي ويتسلم فورًا المعابر، وكل الدوائر "الحكومية" في قطاع غزة، وذلك عدا سلاح المقاومة والأنفاق وأمنهما، وبهذا أسقط كل ما له علاقة بالانقسام من ناحية السلطة، ولم يبق غير تكريس المصالحة بحوار في القاهرة بين فتح وحماس، ثم تنضم الفصائل الفلسطينية كافة إليه لاحقًا.
إلى هنا يجب أن نتذكر أن الانقسام لم يكن تصرفًا عبثيًّا بين الفلسطينيين، ولم يكن عن جهل بأهمية الوحدة الوطنية، أو عدم إدراك لما يحمله الانقسام من سلبيات؛ فالانقسام نتيجة خلاف جوهري بين إستراتيجيتين وسياستين: إسترايجية المفاوضات والتسوية (اتفاق أوسلو واستتباعاته)، وإستراتيجية المقاومة والاستمساك بالثوابت، وجاءت الانتخابات وفوز حركة حماس فيها عام 2006م، وما أدت إليه من نتائج، ليأخذ الانقسام سمة انقسام بين سلطتين رام الله وغزة، وبين منطقتين الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا ما جعل الخلاف العميق السابق انقسامًا بين سلطتين ومنطقتين، الأمر الذي جعل كثيرين يجردونه من بُعدَيْه الإستراتيجي والسياسي، فصار يُعامَل تجريديًّا بالحديث عن مخاطر الانقسام وسلبياته، وإضعافه الوضع الفلسطيني، وقد وصل الأمر لدى بعض إلى اتخاذه ذريعة لنفض اليد من دعم القضية الفلسطينية، ووصل ببعضٍ آخر إلى المبالغة في تصويره كارثة حلّت بالفلسطينيين، وذلك من دون أن يُلاحَظ ما نشأ في ظل الانقسام من تحوّل قطاع غزة إلى قاعدة عسكرية مقاومة عجز العدو عن اقتحامها، أو إركاعها، في ثلاث حروب كبرى، وقد أصبحت عمليًّا أرضًا فلسطينية محررة مع أنها تحت الحصار، هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فلم يُلحظ ما تطور إليه الحال في الضفة الغربية، في ظل الانقسام، وما تبنته سلطة رام الله من إستراتيجية وسياسات، وذلك من ناحية استشراء الاستيطان، واستفحال الاحتلال، مع التنسيق الأمني المريع الذي يذهب بالعقول، ولو حدث مثله في بلدٍ تحت الاحتلال لدخل في تهمة العمالة أو الخيانة، إلا أن الظرف الفلسطيني لا يحتمل إلا عده "مريعًا يذهب بالعقول".
وبكلمة أخرى: لم يتوقف كثيرون ممن راحوا يهاجمون الانقسام ويطالبون بإنهائه وإعادة الوحدة أمام السؤال: ما العمل مع الخلاف بين الإستراتيجيتين والسياستين؟، والأهم ما العمل مع الوضعين الموضوعيين اللذين ترسّخا خلال عشر سنوات من الانقسام بين السلطتين؟
لنضع جانبًا، أو مؤقتًا الإجابة المبدئية والنظرية والإستراتيجية والسياسية عن هذين السؤالين، لنقف أمام ما يجري على أرض الواقع في ظل التطوّر الأخير، الذاهب إلى إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة فالوحدة الوطنية.
قدمت حماس حلًّا بتنازلات، فاقت كل تصور متوقع، بدعوة سلطة رام الله لتولي السلطة المباشرة على كل مناحي قطاع غزة، عدا سلاح المقاومة وأنفاقها وأمن السلاح والأنفاق، وهذه الناحية الأخيرة: السلاح والأنفاق وأمنهما لا تهم حماس وحدها، فهنالك الجهاد والفصائل المشارِكة في المقاومة وحمل السلاح، بل إن هذه الناحية قضية إستراتيجية ومبدئية على أعلى مستوى تهم الشعب الفلسطيني كله، ما يجعل التفريط بها أمرًا كارثيًّا وجللًا لا يجوز الاقتراب منه بأي حال من الأحوال، فما وصل إليه سلاح المقاومة وأنفاقها وأمنهما في قطاع غزة بفضل تضحيات جماهير غزة وآلاف الشهداء، فضلًا عما أحدثه من تطور إستراتيجي بالغ الأهمية في ميزان القوى في الصراع مع العدو الصهيوني.
بعبارة أخرى: ثمة معادلة جديدة يجب أن تتشكل بين السلطة وسلاح المقاومة، إذا أُريدَ للانقسام أن ينتهي، والوحدةِ الوطنية أن تتحقق، والمصالحِ العليا للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية أن يُحافظ عليها، أما أن يُعمم الوضع السائد في الضفة الغربية من حيث التنسيق الأمني الذي سيقود إلى عودة الاحتلال والاستيطان كما هو حادثٌ في الضفة تحت شعار سلطة واحدة وسلاح واحد وقرار واحد كما يطالب محمود عباس فمرفوض بالمطلق؛ فالانقسام خيرٌ ألف مرّة من مصالحة ووحدة تذهبان بالمقاومة وسلاح غزة وأنفاقها.
حقًّا إنه لمن المضحك والمبكي حين تخرج أصوات من قيادات في رام الله تقول: "لن نسمح بأن يوجد وضع بين المقاومة والسلطة في قطاع غزة كما هو الحال في لبنان"، قل: خسِئَت تلك الأصوات إذ لا حل إلا ما هو شبيه بالحل اللبناني بين المقاومة والشعب والجيش والدولة، ويا حبذا لو تنقل هذه "العدوى" الحميدة إلى الضفة الغربية أيضًا على شكل انتفاضة شعبية شاملة تدحر الاحتلال، وتفكك المستوطنات، وتحرّر الضفة والقدس، بلا قيدٍ ولا شرط.