تدفع عفاف اليازجي كرسي طفلتها "لانا" المتحرك على رمال شاطئ بحر دير البلح بصعوبة، انطلاقًا من خيمة أقامتها هناك كمحطة نزوح جديدة أجبرتها قوانين حرب الإبادة الجماعية، المتواصلة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
تحمل لانا وأمها في ملامحهما القمحية شقاء ثمانية أشهر من التشرد والقصف وانعدام سبل العيش، وانقطاع علاج الطفلة التي تعاني من عدم القدرة على المشي منذ ولادتها.
ولانا واحدة من نحو 98 ألف طفل من ذوي "الهمم" في قطاع غزة بالفئة العمرية ما بين 2 و17 سنة، وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2023.
في أكتوبر/ تشرين الأول أجبر القصف المكثف عفاف وأطفالها: مدحت (12 عاما)، ولانا (11 عاما)، ورولا (6 أعوام) على النزوح من منطقة الكرامة شمال غرب غزة إلى بيت عائلتها في شارع النفق شرق المدينة.
لكن ذلك لم يكن سوى محطة النزوح الأولى.
"كنت رافضة للخروج من بيتي بغزة لكن العدوان اضطرنا إلى ذلك"، تتنهد عفاف بينما تلقي بنظراتها إلى أنحاء الخيمة التي استقرت بها، ولم تتخيل يوما أن تعيش بها يوما واحدا.
ولا يهدأ بال عفاف التي لا تعرف مصير منزلها في غزة، بعد أن علمت في مراحل مبكرة من حرب الإبادة بإصابته بقذائف.
حملت معها أوجاعها ومسؤولية توفير علاج طفلتها ومقومات العيش والمأوى، في كل خطواتها.
كانت محطة النزوح الثانية لعفاف هي مخيم النصيرات وسط القطاع، حيث مكثت شهرين في منزل أقربائها، قبل أن يكتظ بالنازحين.
"كنا بالطابق الأرضي وساعدني ذلك في التعامل مع لانا من ناحية دخول دورة المياه وما شابه ذلك، لكن مع وصول مزيد من النازحين انتقلنا للطابق الثالث"، تسرد عفاف فصول الحكاية.
في تلك اللحظة باتت عفاف تتشارك طابقا واحدا مساحته 80 مترا مع نحو 70 شخصا، ما صعب عليها وطفلتها تفاصيل الحياة اليومية.
صالت عفاف وجالت بحثا عن خيمة تؤويها وأطفالها على مدار ثلاثة أشهر في ظل نفاد معظم ما كانت تملكه من المال إلى أن وجدت ضالتها في الخيمة التي تقيم فيها حاليا بدير البلح.
تقول عفاف لـ"فلسطين أون لاين": "الأسعار باهظة جدا والخيمة مكلفة.. تعبت جدا إلى أن وفرنا هذه الخيمة كي تتمكن لانا على الأقل من التحرك بالكرسي والوصول إلى دورة المياه".
لكن ظروف النزوح في الخيمة لا تناسب الحياة الآدمية، وحتى الفراش الذي تنام عليه لانا مهترئ، بينما تنام والدتها على الأرض وهي تعاني من الغضروف.
فرصة سفر
وتعود حكاية افتقار لانا للقدرة على المشي إلى الأشهر الأولى من عمرها، عندما لاحظت والدتها أنها لا تستطيع التقلب أثناء نومها.
وعندما بلغت عاما ونصف العام لاحظت أنها لا تمشي، وأقصى ما يمكنها فعله هو الزحف.
استشارت عفاف أطباء ورجحوا أن يكون لذلك علاقة بالقدم المسطحة لكن الحذاء الطبي لم يُجد مع ابنتها نفعا.
توجهت مع طفلتها في عمر أربعة أعوام إلى القدس المحتلة لكن لم يتحدد لها حتى اليوم تشخيص طبي يفسر حالتها، وهو ما ينكأ "جراحها".
ويشتبه أطباء بأن الطفلة تعاني من ضمور عضلات لكن اختصاصيو علاج طبيعي يستبعدون ذلك.
وتأمل عفاف في السفر مع طفلتها في أقرب وقت على أمل إنهاء معاناتها.
وقبل العدوان الحالي على القطاع كانت لانا تتحمل مشاق الذهاب إلى المدرسة برفقة والدتها التي بحثت طويلا عن مكان تعليمي أرضي يناسب طفلتها.
لكن لانا الآن تواجه "حربين" هما: معاناة عدم القدرة على المشي والعدوان معا.
ويلحق القصف، والحصار، وعدوان الاحتلال البري على غزة "خسائر فادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين ذوي الإعاقة، كما أنهم يواجهون صعوبات أكبر في الفرار من الهجمات وتلبية الاحتياجات الأساسية والحصول المساعدات الإنسانية التي هم في أمس الحاجة إليها"، وفق منظمة "هيومان رايتس ووتش".
وتتضاعف "المخاطر الجسيمة التي يواجهها جميع المدنيين في غزة جراء العمليات العسكرية الإسرائيلية على الأشخاص ذوي الإعاقة" - كما أوضحت المنظمة في بيان سابق- ولم يأخذ إجبارهم على النزوح بعين الاعتبار احتياجاتهم، "إذ لا يستطيع الكثيرون منهم المغادرة. وقد عرّضهم أمر الإخلاء لمخاطر الحرب ولم يضمن توفير سكن مناسب وظروف مقبولة لهم".
و يرقى قطع الاحتلال الكهرباء والمياه عن غزة، ومنع دخول الوقود والغذاء وجميع المساعدات الإنسانية، بما فيها الأدوية، باستثناء القليل منها، إلى مستوى العقاب الجماعي، وهو جريمة حرب، بحسب المنظمة ذاتها.
"اشتقت لسريري وغرفتي ومكتبي"، تقول لانا قبل أن يوخزها وجعها من عدم توفر حتى العلاج الذي قرره لها أطباء لإزالة الدهون عن العضلات.
هكذا هو واقع الطفلة لانا وآلاف مثلها في غزة لم يحلموا بحياة أكثر من الحياة، لكنهم مع ذلك لم يجدوها.