فلسطين أون لاين

تقرير حكاية آلاء وأطفالها.. عائلة تفتقد أبًا أخفاه الاحتلال قسرًا

...
الوسطى/ نبيل سنونو

"أين أبي؟" سؤال بلا إجابة، يترك جرحًا غائرًا في روح الغزية آلاء حسونة كلما طرحته طفلتها الصغرى حنان وإخوتها بدموع منهمرة.

تمسك آلاء بيدها اليمنى المرتعشة هاتفها المحمول وباليسرى هاتف زوجها وترسل له عبر تطبيق "واتساب" تساؤلاتها: "أين أنت؟"، وتخبره بتفاصيل حياة أطفالها، لكنها تعلم أنه لن يرد، لا لشيء إلا لأن الاحتلال فرق بينهم قسرًا.

في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول بدأت حكاية النزوح والألم لأحمد حسونة (37 عامًا) وأسرته الذين أجبرهم الاحتلال على النزوح من منزلهم بحي تل الهوا جنوب غرب مدينة غزة وتوجهوا إلى مستشفى القدس، ظنًا منهم أنهم سيكونون في مأمن داخله وفق القانون الدولي.

حملوا أرواحهم على أكفهم، وأعباء المعيشة وتوفير متطلبات الحياة على صدورهم، تحت النيران والقصف المكثف.

تداري آلاء نظراتها المملوءة بالقهر، وهي تقول لـ"فلسطين أون لاين": "النزوح كان صعبًا وسبب لنا المعاناة". لكن تكرار النزوح تحت وطأة حرب الإبادة الجماعية كان أشد وطأة على نفسها.

كعادته، ضرب الاحتلال القوانين الدولية بعرض الحائط وحاصر مستشفى القدس وأجبر المواطنين على النزوح إلى جنوب قطاع غزة بزعم أنه "منطقة آمنة". لم ينطل ذلك على آلاء وزوجها وأطفالها، لكنهم فقدوا أي حيلة، وقصدوا دير البلح وسط قطاع غزة.

سارت العائلة في 10 نوفمبر 2023 على الأقدام بشارع صلاح الدين بغية الوصول إلى وجهتهم. وهناك، ارتكب الاحتلال جريمة بحق أحمد أمام أطفاله: حنان (10 أعوام)، عمر (13 عامًا)، بلال (14 عامًا)، صهيب (16 عامًا).

تسارعت دقات قلب زوجته وأطفاله عندما ناداه الاحتلال بلون ملابسه، وهم من شاهدوا على صغر سنهم جرائمه بحق الطفولة والبشر والشجر والحجر.

مارس جنود الاحتلال "هوايتهم" في انتهاك القانون الدولي الإنساني، وجردوه من ملابسه كما فعلوا مع كثيرين غيره من الفلسطينيين العزل على مدار العقود الماضية، وغطوا رأسه بـ"كيس" واقتادوه إلى وراء كثبان رملية.

وبذلك، بات أحمد واحدًا من نحو خمسة آلاف غزي اعتقلتهم قوات الاحتلال من القطاع منذ بداية حرب الإبادة الجماعية، "يتعرضون لأبشع أنواع الإجراءات الانتقامية"، وفق بيان للمكتب الإعلامي الحكومي في أبريل/نيسان.

كانت تلك لحظة "صادمة" كأنما انتزع فيها جنود الاحتلال فؤاد آلاء من مكانه.

مضت آلاء وأطفالها إلى طريق النزوح القسري لكن هذه المرة وحيدين ليواجهوا تفاصيل معاناة لا يعرفون كم ستأكل من أرواحهم.

كشمعة باتت آلاء "تحترق" كلما خطت مع أطفالها خطوة واحدة، بينما تعصف الأفكار داخلها عما يواجهه زوجها أو عن مصيره، وتنظر في عيون أطفالها التي غمرتها الدموع لتتخيل حجم الألم الذي ينتظرهم.

في لحظة واحدة، تخيلت كل أحداث حياتها مع زوجها وهما اللَّذان لم يفترقا منذ 17 عامًا، كشريط ذكريات مر سريعًا أمام عينيها في وقت عصيب.

فاضت مشاعرها الملتهبة كبركان وهي تُهوِّن على أطفالها دون أن تجد يدًا تربت على كتفها.

حطت رحالهم في دير البلح دون أن يعرفوا إلى أين يذهبون حتى استقروا في مدرسة إيواء ليومين، ثم انتقلوا لمقر جمعية الهلال الأحمر في خانيونس، ومن هناك نزحوا مجددًا إلى خيمة في رفح.

غرست آلاء أعمدة خيمتها التي تسكنها لأول مرة في حياتها و"عمود" بيتها مغيب قسرًا.

"مسؤولية كبيرة تحملتُها، لم أكن أتوقع أنها بهذا الحجم ألقيت على عاتقي، بلا مأوى"، بنبرة خنقها الوجع تقول آلاء، التي فرق الاحتلال بينها وبين أهلها وأهل زوجها الموجودين في مدينة غزة، وقد فصل بين شمال القطاع وجنوبه.

وفي محطات نزوحها، حاصرتها وأطفالها مخاطر العدوان وانعدام سبل العيش بما في ذلك المأكل والمشرب.

بوحشية، لاحق الاحتلال الغزيين في قوت يومهم، ومنع إدخال الغذاء لهم، وقطع المياه وحتى الدواء عنهم، وفق معطيات أممية.

في كل مرحلة حملت آلاء معها همًا كبيرًا إلى جانب مأساة النزوح وهو المصير المجهول لزوجها.

"سامحيني.."، كانت هذه آخر كلمة همس بها في أذن آلاء، لكنها تريد أن "تسامح" هي نفسها بمعرفة مكانه أولًا ومساعدته في نيل الحرية.

دون جدوى، تتواصل آلاء مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر محاولةً الحصول على أي معلومة عن مصير شريك حياتها.

تعيش مع أطفالها انتظارًا طويلًا يقهر ملامحهم وقلوبهم التي تشتعل بها نيران لا تنطفئ.

لا تريد حنان وإخوتها شيئا سوى أن تُرَد إليهم "روحهم" وأن يحتضنوا أباهم.

تتساءل الطفلة بدمعات ساخنة: "لماذا يعيش أطفال العالم مع آبائهم بحرية، وأنا محرومة حتى من التواصل معه؟".

وبهذا السؤال تتشارك حنان مع آلاف الأطفال الذين "سرق" الاحتلال أعمارهم بزج آبائهم في غياهب سجونه المعتمة، دون حول منهم ولا قوة.