على شاطئ بحر دير البلح، يغرق زهير البيبة (58 عامًا) بدموع تغمر وجهه كشلال حزن لا يجف، وتخط بين ثنايا تجاعيده بعض تفاصيل معاناته من النزوح ومرض السرطان الذي غزا جسده على حين غرة.
هناك، يفترش المسن زهير الأرض ويلتحف السماء "وحيدًا" رغم جموع النازحين حوله على قارعة إحدى الطرق، حيث يستفرد به ألمه، متسائلا عما إذا كان ثمة أحد في العالم يسمع نداءه أو يهتم فيما لو كان ميتًا أم لا يزال على قيد الحياة.
في أكتوبر/تشرين الأول انقلبت حياة زهير رأسًا على عقب عندما بدأ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة، الذي أخذ منحى حرب الإبادة الجماعية.
وقبل ذلك التاريخ كان زهير يعمل سائقًا لكن تقدمه في السن اضطره إلى ترك مهنته.
متكئًا على فراش عتيق ومطلقا نظراته إلى عرض البحر، يقول زهير الذي اشتعل رأسه شيبا لـ"فلسطين أون لاين": إنه نزح من منزله في الشهر الأول من حرب الإبادة لضراوة النيران التي أطلقها الاحتلال على المواطنين في غزة، وضمنها منطقته "الصفطاوي" شمال القطاع.
سلك زهير أسوة بغيره طريقًا "وعرة" هي النزوح الذي يرافقه العدوان الجوي والبحري والبري والحصار وانعدام مقومات الحياة.
توجه مع زوجته وابنه وابنته إلى رفح جنوب القطاع، وهي المنطقة التي زعم الاحتلال ابتداء أنها "آمنة" لكنه شن فيها غارات مكثفة وصولًا إلى الاجتياحات.
استقر الحال بهم جميعًا في غرفة صغيرة بالمدينة التي اكتظت بنحو مليون ونصف المليون نسمة.
مكث زهير هناك سبعة شهور، متحاملًا على نفسه، وهو يلاحق ماء الشرب والغسل والخبز وبقية أساسيات الحياة، لئلا يموت جوعًا أو عطشًا.
ذلك في وقت يماطل فيه الاحتلال، رافضا وقف العدوان الذي أدى إلى استشهاد أكثر من 35.709 مواطنين وإصابة 79.990 آخرين، منذ 7 أكتوبر، وفق وزارة الصحة.
تأكد للمسن زهير قصف الاحتلال منزله الذي تحول إلى أثر بعد عين، لكن بقيت ذكرياته التي كبرت معه في كل زاوية منه على مر السنين.
وكأن مصيبة واحدة لا تكفي، ارتقت شقيقته ضمن 13 شهيدًا في مجزرة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جباليا للاجئين شمال القطاع مؤخرا.
وقبلها فجع باستشهاد الابن الوحيد لأخيه عندما كان يحاول الحصول على بعض الدقيق عند دوار الكويت بغزة، التي تسبب الاحتلال فيها بمجاعة، وفق تقارير أممية.
نقطة تحول
في خضم تلك المعاناة، ثمة حرب أخرى خاضها المسن زهير مع أوجاعه المتزايدة، التي شقت طريقها إليه في مايو/أيار 2023، وعمقت لديه الشعور بالحرقة في البطن وارتفاع درجة حرارة جسده.
توجه زهير في أثناء نزوحه إلى مستشفيي غزة الأوروبي ومحمد يوسف النجار، عله يجد دواء لدائه في منطقة أنهك فيها العدوان المنظومة الصحية واستهدف كوادرها ومقدراتها.
كان الأطباء في البداية يشيرون إلى حصاوى في الكلى، بعد فحوصات الأشعة المقطعية "سي تي" قبل أن يتحول الأمر برمته إلى ما هو غير متوقع.
مثلت المزيد من الفحوصات ومن ضمنها "الخزعة" في أبريل/نيسان نقطة تحول، عندما أبلغ زهير بأن مرضه هو السرطان.
وبات زهير واحدا من نحو 10 آلاف مريض بالسرطان في غزة، وفق معطيات وزارة الصحة.
مكتويا بنيران النزوح والعدوان وفقد الأقارب والمنزل، صار زهير بحاجة إلى عملية جراحية ملحة ليواجه "عدوه الجديد" المتمثل بالسرطان.
لكن الطريق إلى العملية الجراحية ليست مفروشة بالورود في هذا التوقيت الذي يكتظ فيه ما تبقى من المستشفيات في القطاع بالجرحى والمرضى المنومين، مع نقص حاد بالمستلزمات الطبية والأدوية، والاستهداف المتكرر للأطباء.
ويتعمد الاحتلال منذ بداية حرب الإبادة دفع القطاع الصحي في غزة إلى الانهيار مع قصف المستشفيات والمستوصفات وحصارها واستهداف الأطباء والحد من دخول الأدوية والمستلزمات الطبية.
يكفكف زهير دموعه دون جدوى، قائلا: حصلت على أنموذج تحويل علاجي لجمهورية مصر العربية في انتظار اتصال للسفر لإجراء العملية الجراحية، لكن الطريق سُدت باحتلال معبر رفح البري الشريان الوحيد لأهالي القطاع نحو العالم.
"أتنقل هنا في الشارع من مكان لآخر منذ أسبوعين.."، يطلق زهير صرخة من قلبه النازف، واصفا حاله، مع يأسه من الحصول على فرصة للنجاة.
يزيد هذا التشتت معاناته صحيا ونفسيا، متجرعا مرارة النزوح.
يقول زهير: على الأقل، أبحث عن مكان ولو كان "مخزنا" في بناية للعيش فيه مؤقتا مع عائلتي، في وقت تنهكه أعراض السرطان التي تشتد عليه في ذروة الحر وتوفر ظروف الأوبئة والأمراض.
أما هدفه الأول فهو التمكن من السفر في أقرب وقت لبدء إجراءات علاجه.
وإلى أن يتحقق ما بات "حلما" للمسن زهير، يظل النزوح والسرطان ينهشانه بلا حول منه ولا قوة.