قائمة الموقع

الصيد في الحرب .. رحلة بين الخوف والموت بحثًا عن "لقمة العيش"

2024-05-23T17:21:00+03:00
الصيد في الحرب .. رحلة بين الخوف والموت بحثًا عن "لقمة العيش"
فلسطين أون لاين 

بعينين ممزوجتين بالقلق يراقب فؤادي العامودي (62 عامًا) وهو يجلس على رمال شاطئ البحر، أبناءه الأربعة الذين امتطوا حسكة المجداف ودخلوا إلى البحر لصيد السمك، فأمامهم مباشرة يقف أحد زوارق بحرية الاحتلال الإسرائيلي في عرض البحر ولا يتوانى عن إطلاق النار على الصيادين بين الفينة والأخرى خاصة مع ساعات الصباح غرب محافظة خان يونس.

بواسطة حسكة المجداف نشر أبناؤه الغزل على أمل أن يعودوا بصيد "جيد" بعد تسعة أيام كانت شباكهم خالية من الأسماك إلا من كميات قليلة لم توفر لهم دخلا لعائلتهم المكونة من 30 فردًا، ثم بدؤوا بشد طرفي شباك الجر، ساعدهم والدهم الذي أمضى في مهنة الصيد أكثر من خمسة عقود في سحب الشباك التي يسميها الصيادون (جرافة البحر) وتحتاج جهدًا بدنيًا في شدها.

تغيرت ملامح الحاج فؤاد وأبنائه وارتدت ثوب الفرح، بعد ظهور صيد وفير هذه المرة بخلاف مرات الصيد السابقة، وكان "عوضًا جميلا من الله نتاج صبرهم على مرات الصيد تحت عيون الشمس الحارقة ولهيب شعاعها" هذا ما قاله الحاج لـ "فلسطين أون لاين" في مستهل حديثه وهو يمسح قطرات العرق التي تصببت بها وجنتاه.

مغامرة ولقمة شقاء

وتدفع الظروف الصعبة وقلة فرص العمل في ظل حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة الصيادين للمخاطرة بأنفسهم للحصول على لقمة عيش مغمسة بالشقاء والمعاناة والمخاطرة التي دفع خلالها نحو 18صيادًا حياتهم جراء اعتداءات الاحتلال المتواصلة على الصيادين، وتحدي قرار الاحتلال بمنع الصيد.

يقول العامودي وهو يتربع على رمال البحر بعد أن نزل أبناؤه مرة أخرى لنشر الغزل "لم يعد هناك مهنة صيد بعد تدمير الاحتلال لقوارب الصيد (لنش)، ولم يبقَ سوى حسكة المجداف التي نستخدمها حاليا للصيد. نضطر للنزول بسبب غلاء المعيشة وصعوبة الحياة بعد سبعة أشهر من الحرب فنضطر للمخاطرة لجلب لقمة العيش".

وأضاف بملامح يكسوها القهر "لا يوجد حياة؛ أنت وعائلتك موجود في خيمة، والصياد كان يعمل يوما بيوم، ومنذ سبعة أشهر نجلس بلا عمل".

"رأيتُ قاربي (لنش) الذي كان يعيل 15 عائلة يحرق في ميناء خان يونس أمامي، فما تعرضنا له هو دمار شامل" هذه أكثر ذكرى لا يحب استحضارها أو حتى الذهاب للميناء لرؤية بقايا حطام قاربه الذي عمل عليه لسنوات طويلة وكان مصدر الدخل الوحيد.

قبل نزول أبنائه للبحر، استغرق العامودي وقتًا في محاولة إصلاح الفتحات الممزقة بربطها بعقد يدوية وكان ظاهرًا كثرة العقد اليدوية التي تملأ الشباك، يعلق بلهجة عامية "فش غزل عشان نشتريته فبنطر نربطه ونرقعه عشان يشتغلوا فيه".

ونتيجة منع إدخال مواد الخام تضاعفت أسعار مادة الفيبر جلاس اللازمة لصيانة القوارب وحسكة المجداف التي يستخدمها مئات الصيادين حاليا، فحسب العامودي، بلغ سعر كيلو الفيبر 250 شيقلا حاليًا أي بأضعاف سعره، وتضاعف سعر صناعة الحسكة المجداف، وتضاعف سعر شباك الغزل كذلك.

من جديد يتجه نظره نحو أبنائه الذين ينثرون شباكهم مرة تلو الأخرى داخل البحر منذ ساعات الصباح وحتى الظهيرة وهم يحاولون ولا يكلون من المحاولة في البحث عن رزقهم تسلعهم الشمس مرارة وتكرارا، يراقبهم بعيون أبٍ عاش تجربة طويلة في الصيد.

عن صعوبة الحياة، يشرح بصوته المتعب "كل فرد من أولادي يعيل ستة أفراد، أصبحنا نعمل بثلاثة مجالات لأجل توفير الطعام، وحسكة المجداف التي نعمل عليها لا تستطيع عمل اكتفاء ذاتي لعائلة فما بالك لعدة عائلات".

يقر بصوت يكسوه الأسى "منذ أسبوع لم نصطد بما يوفر الطعام، وحتى إن اصطدنا فإننا نضطر لبيعه ولا نستطيع أن نأكل السمك لأنك بحاجة لكميات صيد كبيرة لطعام عائلتنا المكونة من 30 فردا".

 

موسم ضعيف

وفي هذا الوقت من كل عام تنتعش أسواق قطاع غزة بموسم الصيد الذي يبدأ من شهر مايو/ أيار ويونيو/ حزيران، وتمتلئ الأسواق بأسماك السردين والسكمبلة، لكن الحرب حرمت أهالي القطاع من هذا الموسم، ورغم ذلك يحاول الصيادون استغلال الموسم، يقلب العامودي كفيه بتهكم ممزوج بابتسامة ساخرة " في أكبر موسم لا شفنا سردين ولا صيد".

الصياد الذي نال منه العمر وجعله يسير بخطوات ثقيلة، لم يسجل يوم غياب عن البحر منذ 52 عامًا، فلم يمنعه الحرب ولا المطر من النزول للبحر، ورث المهنة عن والده وأجداه وها هو يغرسها في قلوب أبنائه وأحفاده الأطفال الذي يتسابقون لمساعدته، الجميع يعودون إليه في المشورة حول وجه الصيد، وطرق التعامل مع الغزل الممزق.

وكان يعمل في قطاع الصيد نحو 4 آلاف صياد، تدمرت معظم مراكبهم، ولم يبق سوى حسكة المجداف، وانخفضت أعداد الذين يعملون في هذه المهنة أمام منع الاحتلال الصيادين من النزول للبحر، وإطلاق النار عليهم من زوارق الاحتلال التي تجوب بحر شمال القطاع وجنوبه، أدت الاعتداءات لاستشهاد 18 صيادا أثناء عملهم وإصابة العديد منهم.

سالم النجار صياد بترت ذراعه بعد تعرضه لإطلاق نار من زوارق الاحتلال أثناء عمله داخل البحر، عندما حاول المغامرة أكثر بحثا عن الأسماك داخل البحر فتحول الصياد إلى فريسة لجيش الاحتلال.

يروي ابن عمه سامي النجار لـ "فلسطين أون لاين" ما جرى "ذهب سالم لسحب الشباك لكنه تفاجأ بإطلاق النار عليه من زوارق الاحتلال، ومنذ تلك الحادثة لم أدخل إلى البحر واصبحت أصيد بنظام الجر (جرافة البحر) خوفا من إطلاق النار علينا".

يقف النجار أمام صندوق بلاستيكي امتلأ نوعا ما بالأسماك، وهذا أفضل ما يجنيه الصياد في هذه الفترات من الصيد خلال الحرب، وبجانبه ميزان كان يبيع بعض الزبائن الذين توافدوا للبحث عن أسماك السردين أو السكمبلة  التي يضمها الصندوق، بينما نزل أخوته للبحر لرمي الشباك مرة أخرى.

تلسع حرارة الشمس ملامحه التي احتلها اللون الداكن، لكن ليست هذه معاناته يقول "المعاناة الأساسية أنك لا تستطيع الدخول للبحر لجلب قوت أولادك، وإذا حاولت الدخول فيتم إطلاق النار عليك".

يملك النجار حسكة "مجداف" وهذه النوع هو من تبقى من قوارب الصيادين التي دمرها الاحتلال وباتت "كنزًا" لمن يملكها، إذ تضاعف سعرها من 4 آلاف شيقل إلى 10 آلاف شيقل.

على جانب آخر، ينهمك الصياد محمد اللحام في شد شباك غزل لا يقل طولها عن 100 مترًا بمساعدة أفراد من عائلته، تمهيدا للنزول مرة أخرى للبحر بعد خلو الشباك من الأسماك في المحاولة الأولى.

بينما  يشد حبل الشباك السميك كانت تتساقط قطرات العرق من جبينه، يصف اللحام الصيد في الحرب لـ "فلسطين أون لاين" بأنه "عمل بدون مقابل"، نتيجة العمل في مسافة لا تزيد عن 700 متر والتي تخلو من الأسماك ذات الأحجام الكبيرة.

كغيره من الصيادين يفضل اللحام "رمي نفسه إلى الموت" كما يصف، وتحمل المخاطرة والمشقة لأجل جلب قوت أطفاله على أن يبقى أسيرا لظروف الحرب، مستعينا بحسكة المجداف التي أصبحت وسيلة الدخل الوحيدة للصيادين.

ويستخدم اللحام طرقا محدودة في الصيد، الأولى عن طريق الجر (الجرافة) والتحويط الدائري للشباك داخل البحر، والتبييت عن طريق رمي الشباك عصرا داخل البحر وإخراجه في اليوم الثاني، بينما حرمت الحرب الصيادين من العمل على مراكب الجر (لنش) والتي كانت تعود بصيد كبير يكفي لاحتياجات السوق.

بمسافة ليست بعيدة عنهم، وعلى مد بصرك يقف صيادون على بعد 20 مترا داخل البحر لفترة طويلة  وهم يحملون شبكة صيد على أذرعهم ويمسكون بطرفها باليد الأخرى يطلقون عليها اسم شبكة (طرح) تعتمد على انتظار رؤية السمك ثم إلقاء الشبكة عليها، أو الرمي العشوائي.

لم الصياد الثمانيني أبو عصام مقداد تحمل الانتظار الطويل بسبب تقدمه بالسن، فلجأ لطريقة الرمي العشوائي على الأمتار الأولى من مياه الشاطئ، حظي خلال المحاولتين بصيد "جيد" بالنسبة له يستطيع خلاله العودة لعائلته التي تنتظره.

صباح كل يوم يأتي مقداد لشاطئ البحر غرب محافظة خان يونس وهو يحمل شبكة الطرح بين ذراعيه، ويستمر حتى ساعات الظهيرة متنقلاً من نقطة إلى أخرى، لا يأبه بتقدمه في العمر أمام صعوبة الحياة وقسوتها وحاجة عائلته للدخل وللطعام، فتارة يصطاد ليأكل وتارة يصطاد لبيعه.

 

اخبار ذات صلة