سبعة شهور تقريبًا على حرب أعلنت إسرائيل هدفها بوضوح، وهو القضاء على حماس. لم يظن مجلس الحرب الإسرائيلي المدعوم بأعظم قوى عسكرية وسياسية في العالم أن تنقضي الشهور السبعة فيما يبقى السؤال مطروحًا: هل تحقق هدف الحرب؟ تنطوي الإجابة البديهية لهذا السؤال على سؤال آخر جوهري وابن ساعته بالنسبة لمختلف دوائر الفعل والقرار المنخرطة في المشهد، وهو هل سيكون ممكنًا القضاء على حماس؟
ينشغل المحللون والمتابعون المهتمون بشؤون الحرب، وأجهزة الاستخبارات المعنية بإجابة هذا السؤال الآن اليوم أكثر من أي وقت مضى. انشغلت حماس بطبيعة الحال منذ اليوم الأول في إخراج مشهد ميداني وسياسي يصنع الـ "لا" لهذا السؤال، والتي تبدو "لا" منطقية وأكثر واقعية من الهدف المعلن للحرب اليوم. فبعد سبعة شهور ينطوي المشهد الميداني على عجز إسرائيل عن الحفاظ على مواقعها داخل الأحياء السكنية، فيما يتلخص المشهد السياسي بطاولة مفاوضات دولية طرفها الرئيسي هو المنظمة التي يتمّ السعي للقضاء عليها. وهذه الطاولة بدورها تحرّر جانبًا كبيرًا من إجابة السؤال.
سلاح سياسي
لقد دأبت حماس منذ بداية الحرب في صياغة رسائل من مستويات ثلاثة: الأول ميداني عسكري، والثاني ميداني إداري، والثالث سياسي. لقد انخرطت كتائب القسام في مواجهة استثنائية، فاجأت الجيش الإسرائيلي، كما فاجأت الحواضن المحلية للمقاومة الفلسطينية نفسها.
تشير الفيديوهات وسير عمليات حرب المدن والأحياء إلى إستراتيجية الـ 105، أي قذيفة الياسين 105 المضادّة للدروع، والتي أعاقت تقدُّم الجيش الإسرائيلي بشكل كبير، بل حرمته إمكانيةَ البقاء طويلًا في أماكن سيطرته. بالعودة إلى أرشيف القسام خلال السنوات الماضية، فقد كانت الوثائقيات التي صدّرها حول التصنيع المحلي تركّز على سلاحَين أساسيَين، الأول الصواريخ، والثاني قذائف الياسين المضادة للدروع.
وكانت الأخيرة تعكس التحضير المبكر لسيناريو اجتياح المدن والأحياء السكنية. سلاحان مخصصان لغرضين ومرحلتين مختلفتين ومتناقضتين ربما، غرض المواجهة والدفاع في وجه عدو خارج الحدود، والثاني لمواجهته داخل الحدود. وما بينهما سلاح الهاون الذي ظهرت فاعليته مؤخرًا، لمواجهة خَصم قريب، لكنه خارج حدود الأحياء السكنية، وهو التموضع الحالي للجيش الإسرائيلي بعد انسحابه من معظم الأحياء والمدن وإعادة انتشاره في الحزام الحدودي الداخلي لغزة. أي أنّ التسليح العسكري للقسّام قام على أساس التعامل مع مراحل مختلفة.
لقد استخدم القسام الصواريخ خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للمدن والأحياء كسلاح سياسي أكثر منه عسكريًا، لإثبات الوجود والقدرة، في مناطق الشمال على الأخصّ، كلما ادّعى الجيش الإسرائيلي أنه أنجز مهمته هناك. ويبدو أن تقديرًا ليس بالخاطئ الذي تحدث عن قدرة القسام الحالية على إطلاق الصواريخ من الشمال، لكنه يؤثر ألا يثير ردة فعل يدفع ثمنها المدنيون، الذين كانوا ولا يزالون هدفًا عسكريًا إستراتيجيًا يعكس مأزِق النفاذ العملياتي للأهداف.
في مستوى الإدارة الميدانية، بدت حماس في عناد انتحاري على البقاء على الأرض لإدارة الشؤون العامة للقطاع، خاصة في قطاعي الصحة والإغاثة الإنسانية، إلى جانب قطاع الأمن بنسبة ليست قليلة. يدلل على ذلك انتشار الشرطة المدنية التابعة لحكومة حماس من أجل تسهيل وصول المساعدات؛ رغم المخاطر الكبيرة المحدقة بوجودهم، وهو ما عرّضهم فعلًا لاستهداف متكرر، والتعامل معهم كأهداف عسكرية، بل واحتساب الاحتلال ضحايا الأجهزة الأمنية المدنية ضمن حصيلة استهدافاته لعناصر القسام العسكرية.
لا تزال حماس حتى اللحظة تصرّ على إدارة القطاع الصحي تحديدًا بشكل حاسم، كونه القطاع الذي يتصدر التحديث الإخباري للمشهد الميداني، ويعكس بدرجة ما عدمَ انهيار الإدارة الحكومية للقطاع. قد يفسّر هذا في جزء منه، هوس الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات، ومعاقبة الطاقم الطبي بشكل خاص، وكأنه يتعامل مع أهداف إستراتيجية، حتى بات استهداف المستشفيات ومؤسسات القطاع الصحي متلازمة مرضية لدى هذا الجيش. فانهيار القطاع الصحي هو الذي سيعكس أكثر وجوه انهيار سلطة حماس في غزة.
بالونات اختبار
لقد أصرت حماس على تثبيت وجودها الإداري للقطاع بأثمان باهظة جدًا. وتمكَّنت عمليًا من إفشال اختبارات من قبيل تشغيل عملاء في غزة يتبعون جهاز الاستخبارات الفلسطينية التابعة لسلطة رام الله للقيام بأدوار محدودة في شمال القطاع، كبالونات اختبار لمدى وجود إدارة حماس على الأرض من جهة، وقياس إمكانية تأسيس بنى إدارية جديدة لما يمكن أن يكون نواة سلطة ما بعد الحرب من جهة أخرى. يعكس العقاب الشديد الذي ألحقته حماس بعناصر تلك الخلايا بعد القبض عليها، ونشرها تفاصيل المشهد، إصرارها على عدم ترك أي مساحة بدون مظلتها الإدارية مهما كانت الظروف.
لقد توسعت إدارة حماس المدنية في المناطق التي انسحب منها جيش الاحتلال الإسرائيلي في معظم الأحياء والمدن، وتقوم إدارات حكومية من مختلف الوزارات بتشغيل الأسواق، وتحديد قواعد عملها مثل توزيع نشرة أسعار دورية لمعظم السلع المتوفرة، وإعادة ترتيب توزيع المساعدات. كما تشهد هذه الإدارات انخراطًا متزايدًا مع منظمات الإغاثة الدولية من أجل تنسيق الجهود الإنسانية على الأرض. وتعمل الأجهزة الأمنية في بعض المناطق بكفاءة نسبية ما.
في المستوى السياسي، فقد أظهرت حماس مسارين متوازيين في حضورها السياسي المتعلق بالحرب وأحداثها. الشق الأول، الانخراط التفاوضي النشط واقتراح التعديلات في كل ما يُعرض دون رفضه بالكلية. وهو ما يبقيها داخل دائرة التفاعل الدولي والإقليمي دون المغامرة بإنهاء العملية والدخول في عدمية سياسية. تبدو حماس وكأنها صاغت قاعدة تفاوضية ترتكز على مبدأ "المفاوضات التي لا تنتج صفقة، ينبغي أن تنتج عملية سياسية مستمرة"، يعكس هذا المبدأ الفترات الزمنية المتباعدة بين تلقي العروض والرد عليها من قبل حماس، خاصة في الحالات التي كان يُعتقد بوجود فجوة كبيرة بين المعروض والتعديلات.
حافظت هذه الإستراتيجية في حماية المشهد من الوصول إلى انغلاق تام، وفي الوقت ذاته ساهمت في تسْكين معنوي للحواضن الشعبية للسكان في غزة من خلال إشعارهم بوجود أفق انفراج باستمرار المفاوضات، خاصة مع التسريبات المتكررة في تركيز حماس على المطلب المتعلق بعودة النازحين للشمال دون شروط، وهو مطلب يخاطب احتياجات الحاضنة السكانية مباشرة. فيما لم تركز حماس على مطالب جوهرية في صفقات كهذه، مثل أعداد الأسرى ونوعياتهم.
شراكة فاعلة
في الشق السياسي الثاني، فشلت سردية تحويل 7 أكتوبر/ تشرين الأول إلى 11 سبتمبر/أيلول الإسرائيلي. فالعالم امتصّ صدمة حدث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بعد دعم هائل لحرب فشلت حتى الآن، وباتت الخسائر البشرية والتداعيات الإنسانية تدفع بتشكل حركة اجتماعية عالمية تنغّص المزاج السياسي في معظم الدول الغربية، وتحرم السياسيين هناك من انتقال سلس وهادئ للخطاب والممارسة اليومية.
يكفي أن ننظر إلى شاشات البثّ المباشر من الجامعات الأميركية اليوم. كما أن قيادة حماس السياسية في الخارج تبدو وكأنها خرجت من عنق زجاجة المرحلة، فعلى مدار الشهور السبعة، فتحت ستُّ عواصم عالمية أبوابها لقيادة المكتب السياسي لحماس بمن فيهم حلفاء ووسطاء. اثنتان منها عواصمُ دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، روسيا والصين. عكس هذا عدم تشكل إجماع دولي على فكرة العزل السياسي للحركة، حتى من قِبل دول أدانت بشكل واضح ما حصل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
هذه المستويات الثلاثة مثّلت رسائل حماس المستمرّة للإجابة عن سؤال مستقبلها، سواء في غزة أو في المشهد الفلسطيني العام.
تعكس هذه الرسائل أن استعداد حماس التخلي عن سلطة غزة أمر غير واقعي، فيما يعكس خطاب حماس السياسي تقبلًا لفكرة التشارك في الإدارة، وهو أمر عكست جانبًا منه انخراطاتُ الحركة مع مختلف الفاعلين الفلسطينيين. حيث رفضت الحركة، ولا تزال، فكرة التواصل مع محمود عباس، الذي ظهر كقيادة ملتزمة بالترتيبات الأميركية الإسرائيلية أكثر من أي شيء آخر في ظل أكبر حملة قتل جماعي للشعب الفلسطيني في تاريخه. بالمقابل تقبّلت الحركة انخراطًا فاعلًا من شخصية مثيرة للجدل فلسطينيًا مثل محمد دحلان، رغم مخاطر هذا التقارب وتدنّي شعبيته.
يعكس هذا التناقض مسألة إصرار الحركة على حضورها في مشهد إدارة غزة، أو الشراكة الفاعلة فيه، وأن مسألة إبعادها عن المشهد تمثل معركتها الرئيسية التي لا تقلّ ضراوة عن الحرب العسكرية التي تستهدف وجودها، بل وفي إدراك الحركة لتداخل المسألتين في مهمة واحدة أصلًا.