"أنا ليش رجعت على البيت!؟.. بنظرات تعجب تراقب أم "أمير" حوار زوجها مصعب أبو زايد مع نفسه عندما رجع لبيته بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، رغم أنه خرج للتو للسوق لشراء خبز ولم ينجح في ذلك، فلم يتأخر في الإجابة على نفسه عندما رسمت الابتسامة طريقها في ملامحه محاولا إخفاء حزنه أنه لم يعد بالخبز: "بدي أخد الأولاد على ستهم"، كانت عقارب الساعة تقف عند الثانية عشرة ظهر 15 فبراير/ شباط 2024.
كسر صوت طفله أمير (5 سنوات) حوار والديه، مبديًا استعداده ببراءة طفولية لمساعدته في إعمار بيتهم المقصوف: "بدي اعطيك حصالة الفلوس، ابني أنا وإياك بيت جديد" كانت كلمات الطفل كفيلة بانتزاع ابتسامة عريضة من ملامح والده، وهو ينظر للمستقبل ويرتب أمنياته القادمة.
فجر اليوم نفسه، أمّ مصعب عائلته بصلاة الفجر، ورتل آيات الصبر والنصر بصوته الندي، فكان في أمان الله، مكث يومه برفقة طفليه، في أجواء حاول فيها التخفيف من وطأة ظروف الحرب عليهم وقبلها النزوح وهدم البيت، أعدت له زوجته تمرا وقهوة في زيارته لعائلته.
داخل حديقة منزل واسع نزحت إليه العائلة بمخيم النصيرات وبين ظلال الأشجار، اجتمعت الحاجة ابتسام أبو زايد مع نجليها الصحفيين مصعب وزيد، وأطفال الاثنين وزوجة الأخير، وابنتها "آية" (14 عاما) كان الاجتماع الأول بعد أسبوع من عودتهم من رحلة نزوح استمرت أكثر من شهر ونصف بمحافظة رفح، رأت العائلة ألوانا من المعاناة وهي التي تملك منزلاً واسعا.
تمر وقهوة، وأطفال صغار يحلقون كالعصافير بين الأشجار، يلعبون بعيدًا عن حياة الخيم التي افتقدوا فيها لأي مساحة لعب بين تلك القطع القماشية المتلاصقة، وعائلة تلتئم لأول مرة منذ شهر ونصف، كانت حور ابنة العامين تجلس في حضن جدتها في زيارتها الأولى لها.
بعد نصف ساعة هز دوي انفجار عنيف سماء المخيم، ووصلت ارتداداته لقلب زوجة "مصعب" التي أرسلت أطفالها مع والدهم لزيارة جدتهم، وتوالت هزات الفاجعة والصدمة، مع اتضاح الخبر باستهداف المنزل الذي نزحت إليه العائلة دون سابق إنذار، ونقل الشهداء الذين بلغ عددهم 10 شهداء.
بكلمات يعتصرها الألم تروي زوجة مصعب لـ "فلسطين أون لاين" قائلة "كانوا في لمة أسرية في حديقة منزلهم الواسع، وحدث الانفجار الذي سمعته ولم أتخيل أن يطال الأسرة. جميعهم تعرض لإصابات في الرأس ونتج عنه نزيف داخلي كانت أجسادهم كاملة، لأنهم لم يتواجدوا داخل البيت".
على مدار سبع سنوات من الزواج، كان "نعم الزوج والأب" تزينت حياتهم بأطفالهم "أمير" و"حور"، شاءت الأقدار أن يرافقا والدهم الذي لم يخطط في البداية لاصطحابهم معه، يأتيها صوته قادما من جيوب الذاكرة وهو يرتل آيات من القرآن الكريم أو يقدم برامج إذاعية دينية وتعليمية، وصوته القادم من مآذن المساجد وهو يؤم الناس في صلاة التراويح.
استشهدت الحاجة "أم بلال" وابنتها "آية"، وابنها الصحفي زيد وأطفاله "محمد وغيث" وزوجته ساجدة، واستشهد ابنها الصحفي مصعب وأولاده حور وأمير، لتنتهي اللمة الأسرية ويتحول البيت وحديقته الجميلة لكومة ركام، بقيت شاهدة على مجزرة شبعة ارتكبها الاحتلال وأحلام، وسبقهم في قصف آخر شقيقاهما بلال وعمر وزوجة الأخير وابن أخيه حمزة، لتحذف العائلة الحافظة للقرآن الكريم من السجل المدني.
صوت ندي
حمل مصعب صوتًا إذاعيًا مكنه من الاستحواذ على برامج دينية ووطنية لسنوات عديدة في إذاعة القرآن الكريم في قطاع غزة، اختار تقديم برامج دينية يطل بها على المستمعين، يغرس فيهم تعاليم الدين الإسلامي عبر استضافة علماء وأكاديميين، هدفت البرامج التي كان يقدمها مصعب أبو زايد لتحصين المجتمع الفلسطيني من الغزو الفكري الخارجي عبر برامج توعوية مختلفة.
كان معصب أبو زايد شابا طموحا وهو خريج الصحافة والإعلام من الجامعة الإسلامية اختار الإذاعة التي كان يحبها وتعلق بها منذ طفولته، فكان يقدم فقرات إذاعية مدرسية طوال فترة دراسته، وكذلك عرافة احتفالات ومناسبات عديدة كان يقدم إليها، كشفت عن موهبة صوتية يملكها، تطوع في إذاعة القرآن الكريم وأصبح موظفا فيها عام.
يعتبره صديقه الصحفي أيمن عواد "جنديا من جنود الصحافة الفلسطينية" فكانت همه الأول، ولذلك أثر واضح وانعكاس على البرامج التي كان يقدمها، وبصمة حقيقية على صعيد الإعداد.
تعود به الذاكرة لصداقته بمصعب: "جمعتني به علاقة صداقة منذ أن كان طالبا، فتم إعداده إعدادا جيدا في مجال العمل الصحفي والتحرير الصوتي وله أنشطة على الصعيد الإعلامي، وبصمة واضحة في الإنشاد الإسلامي الهادف والوطني، وهو شخص مميز هادئ بطبعه يحبه كل من عرفه، ودائمًا يحرص على كسب قلوب الآخرين وكذلك أن يكون مميزًا في أعماله".
التحق أبو زايد في العمل الإذاعي عام 2014 وكان له بصمة في العديد من البرامج أهمها برامج المسابقات الترفيهية والشبابية وحرص على توطيد العلاقات ما بين الإذاعة والمجتمع المدني الفاعلة، وقدم برامج إذاعية منها برنامج "أهل الخير" والتي كان يجبر فيها الفقراء.
عن استهدافه، يعتصر الألم صوت زميله قائلا: "مكث مصعب مع عائلته مطمئنا آمنا، لكن آلة الحرب باغتت البيت الآمن بقتله وقتل عائلته حتى أنهم مسحوا من السجل المدني، ونسأل الله أن تكون هذه البصمة إرث عظيم تتناقله الأجيال جيل بعد آخر".
في مسيرة إعلامية حافلة بالإنجازات والعمل المتواصل، عمل مصعب محررا صحفيا في صحيفة سبق الإعلامية لمدة عامين، كذلك مقدم ومعد برامج في إذاعة "حوا"، ومقدم برامج بإذاعة القرآن الكريم، وله بصمة حقيقية في مجال التسجيل الصوتي (فويس أوفر) في مؤسسة الكتاب الصوتي.
لم يكن صوت أبو زايد منحصرا في تقديم البرامج الإذاعية، بل امتلك موهبة فنية فكان منشدًا إسلاميًا وعمل بفريق "وطني" للإنشاد، ليرحل صاحب الصوت الندي الذي أنشد لفلسطين التي امتلأ قلبه في حبها، وكان صوته سلاحًا يدافع به عن دينه وقضيته العادلة.
أسكت الاحتلال صوت المذيع الذي سيفقده الأثير بعد ذلك، لكن أثره وبصمته ستبقى حية تذكر العالم بجرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الصحفيين الذين لم يحمهم القانون الدولي من آلة البطش، وبجريمة قتل الصحفي أبو زايد وعائلته وهي جرائم تضاف لسجلٍ أسود منع فيه الصحفيين من التغطية وممارسة عملهم، بل امتدت الانتهاكات لملاحقتهم في البيت.
قلب كالطير
أما شقيقه زيد فقد التحق بركب الإعلام في بداية مراحله الدراسية، مستفيدا من صوته الجميل وخبرته السياسية والثقافية رغم أنه خريج شريعة وقانون، وكان مقدم برامج في قناة الكتاب الفضائية ومذيعًا، فاكتسب خبرة إعلامية حجز من خلالها مكانا على الساحة الإعلامية، وبدأ اسمه يبرز بين الصحفيين.
تقول زوجة شقيقة مصعب والشاهدة على المجزرة عن شقيق زوجها إن: "زيد كان خدوما طيبا، جابرا للخاطر قلبه كقلب الطير من رقته وطيبته تعلق بأطفاله كثيرًا، ومنذ بداية حر بالإبادة على غزة كان يصوم ما عدا يوم الجمعة واستشهد وهو صائم مع والدته".
لم يتوقف طموح زيد مع إغلاق قناة الكتاب، فعمل مذيعا في إذاعة القرآن الكريم التابعة للجامعة الإسلامية، وكان من أوائل المذيعين فيها وقدم برامج عديدة، وتوالت نجاحات الإعلامي الشاب نتيجة حرصه على صقل مهاراته بشكل كبير فتقلد منصب رئيس التحرير ورئيس قسم البرامج.
ضمن بعثة إعلامية أرسل زيد لتغطية موسم "الحج" عام 2014، وكان ممثلا عن الإذاعة وأدى "دورا بارعا في نقل رسائل الحجيج، ومعايشتهم عن كثب" وعاد إلى قطاع غزة وقد أدى المناسك التي كان يتمناها.
تمتع زيد بمهارات في القيادة، وكان صاحب طموح علمي كبير فحصل على درجتي الماجستير والدكتواره، فارتقى في عمله الإعلامي وتقلد منصب مدير إذاعة القرآن الكريم، وكان له بصمة في الخروج بدورات برامجية متنوعة سواء دينية أو تعليمية وثقافية وسياسية.
يصفه زميله أيمن عواد بأنه "صاحب بصمة مؤثرة في مجال الإعلام الفلسطيني" فضلا أنه في التعامل الشخصي مع الآخرين تمتع بأخلاق عالية.
"ما جرى باستهداف العائلة وقتلها جميعا، يدلل على بشاعة الاحتلال، فزيد وأشقاؤه لم يشكلوا خطرا على الاحتلال وكان متفرغا لعمله الإعلامي وقارئا للقرآن تتسابق كل المساجد في رمضان للإمامة بالمصلين في صلاة التراويح" بصوت غلفه الفقد ختم حديثه.