كان شيخنا يقول دومًا: "من يظل في الظل فلا ظل له".
تذكرت مقالة شيخنا وأنا أقرأ السيل الجارف من التعليقات والتحليلات للمواجهة بين إيران وإسرائيل، واحتمالات تطورها.
كثير من أولئك الذين انبروا ليحللوا ويعلقوا، يكتبون وهم في دائرة العتَمة العربية، التي تختفي في غياهبها الأجسام والظلال على حد سواء. فهذه العتمة، المطبقة على مجتمعاتنا، تجعلنا ندور على غير هدى، بحثًا عن طريق يخرجنا إلى بصيص نور، فتجدنا نكيل الاتهام لكل الناس خبط عشواء، ونتذرع بنظريات المؤامرات الخفية، لأننا عاجزون عن رؤية الواقع من حولنا، فتسرح بنا خيالاتنا وعواطفنا، وتضلّ حساباتنا، ونخسر الرهان في كل مرة.
حسابات بعيدة عن الواقع
لا أريد هنا أن أفنّد أو أؤيد قول من قال إنّ الرد الإيراني على هجوم إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق، كان مسرحية تخفي وراء ستارتها حقيقة التعاون الخفي بين إيران وإسرائيل، فكثير من سياسات إيران تجاه الوطن العربي لا يمكن قبولها أبدًا، إذ كان لها من العواقب والتبعات والدماء، ما لا يمكن التغاضي عنه بحال من الأحوال. وكثير أيضًا من الاتهامات التي توجه لإيران، منذ عام 1979، تنطلق من اعتبارات مذهبية وقومية وعواطف ضبابية بعيدة عن حسابات الواقع والجغرافيا، والمصالح والمحاكمة العقلية، ولا يمكن تبعًا التعاطي معها باعتبارها حقائق ثابتة أو مسلّمات لا يطالها النقاش.
فالقول؛ إن إيران لعبت على المسرح الدولي دور العدو اللدود لإسرائيل جهارًا، بينما تتقاسم معها سرًا الأدوار في السيطرة على الوطن العربي، يتجاهل قصدًا الواقع الذي عاشته إيران منذ عام 1979.
قبل ذلك التاريخ كانت إيران تعيش في ظل الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، رغم ما كان يحيط بعرش الطاووس الشاهنشاهي من أبّهة وخيلاء، وصولجان كان يشهره في وجه جيرانه شرقًا وغربًا، فلا يحركون ساكنًا. لقد ظل الشاه في ظل الغرب لا ظل له في حقيقة الأمر، حاله حال من يستظلون بظل غيرهم حتى يومنا هذا.
وحين استفاقت إيران، بعد طول سُبات وسطعت شمس يوم جديد، غاب الشاه وغاب صولجانه، وأصبح لإيران ظل يتناسب وقامتها الممتدة عبر القرون، وبين الأمم. ومن يرى ظله بين الناس بعينه، وليس بعين غيره فلن يقبل أن يذوب في ظلال الآخرين، ومن تعلو بهمته قامته فلن يسمح أن يستقصرها غيره، أو أن يهلِك دون ذلك.
ليس هذا مدحًا لإيران ولا قدحًا فيمن يشكّون في مواقفها ونواياها، ولا انحيازًا لصفّ على حساب آخر، بل هو تذكير بواقع نعيشه منذ 1979 بما كان فيه، وما زال، من انحيازات طائفية ومذهبية مؤلمة نتجرع مراراتها كل الوقت.
ولعلّ مشكلتنا، نحن العرب اليوم، هي غياب ظلنا في ظل غيرنا، منذ أن بدأت حركة الاستعمار الكولونيالي الغربي مع احتلال الجزائر عام 1830، وما تبع ذلك من حملات استعمارية على حساب الدولة العثمانية إلى أن زرع الغرب الكيانَ الصهيوني في فلسطين، ليضمن استمرار هيمنته علينا، وذوبان ظلنا في ظله الثقيل. وقد تحقق له ذلك، كما نشاهد اليوم!
مفاهيم مريحة
في خضم هذه العتمة الحالكة تبحث بعض أقلامنا، وربما مجتمعاتنا وأنظمتنا الرسمية، عن "مفاهيم مريحة" تتهم الآخر بالتآمر الخفي فتستكفي القتال بالانزواء وراء الاتهامات. فلماذا لا نستعيد ظلنا أولًا قبل أن نتهم ونستكفي وننزوي؟ أم إن استعادة الظل بين الظلال، وعلو القامات بِهِمَمِ أصحابها دونه خرط القتاد، كما قالت العرب؟! من أراد استعادة ظله فلا يهابَنَّ لفح الشمس! فلا ظل من دون شمس أو ضوء، ولا ظل في الأركان المعتمة سوى في خيالات لا تبارح أماني أصحابها.
لقد استعادت إيران ظلها فامتدّ إلى بقاع ليس فيها ظلال أصحابها، وهذا هو ديدن التاريخ، من ينسحب يترك لغيره أن يملأ مكانه. ذهب الشاه غير مأسوف عليه، ولم يجد في منفاه، بين من عاش وتجبر في ظلهم، لا سلوى ولا أملًا. أما من تبوَّؤُوا الحكم في إيران بعده فقد اطَّرَحوا ظلالَ غيرهم، وطرحوا ظلهم على أرضهم، فتطاول بعيدًا في البقاع الخالية حولهم من ظلال أهلها.
قالوا؛ إن الصواريخ والطائرات المسيرة التي أطلقتها إيران مباشرة، من أراضيها هي، على أهداف في الكيان، كانت مجرد ألعاب بهلوانية لم تدمر ولم تصب، بل أسقطت وهي في سماء بلاد العرب.
لا أريد أن أجادل، بل أسأل ترى من أسقطها؟ هل أسقطت بصواريخ أو بواسطة مقاتلات من صناعة عربية؟ الأميركيون وتابعوهم الإنجليز والفرنسيون تباهوا بهذا الإنجاز دفاعًا عن إسرائيل. وما لا يستطيع أحد أن يماري فيه هو أن تلك الصواريخ والطائرات، أصابت أهدافها أو أخطأتها، هي من صناعة إيران المحاصرة، منذ أن بسطت على أرضها ظلها، الذي غيَّبه الشاه طويلًا.
لقد آن الأوان لأن نستفيق وندرك أن علينا أن نستعيد ظلالنا المطموسة في ظلمات تبعياتنا للغرب، وما لم نجرؤ على هذا بهممنا، فسوف نظل نستعيض عن مواجهة واقعنا المؤلم باتهام غيرنا بخدمة عدونا سرًا، وما أسهل أن يُنحي المرء باللائمة على غيره، حين يقعد أو يغرق في السُبات دهورًا.
غزة تبسط ظلها
إننا نخشى برنامج إيران النووي، وربما كان ذلك من حقنا، لكن ما الذي يمنعنا أن نحذو حذو إيران، ونطلق برنامجنا النووي ونصنع سلاحنا؟ سيقول لك من يتهمون إيران باللعب مع الأميركيين والغرب، لو لم يرد الغرب لما كانت إيران تخصب اليوم اليورانيوم لما يزيد عن 60%.
لكن لماذا لا تسمح أميركا حتى اليوم لألمانيا واليابان بتطوير سلاح نووي منذ أن هزمتهما في الحرب العالمية الثانية، وأصبحتا حليفين تابعين لها رغم أن كل واحدة منهما قادرة على إنتاج هذا السلاح في بضعة شهور، أو أقل؟ وهل يسمح حلف الناتو والغرب لتركيا، العضو البارز في الحلف بامتلاك سلاح نووي؟
لقد شكا الرئيس أردوغان يومًا من هذا، ولم يزد. فكيف إذن سيسمح الغرب لإيران بذلك ولو سرًا؟ أما إسرائيل فقد أنشؤُوا لها بعد قيامها بقليل مفاعل ديمونا؛ لأنها أداتهم الرابضة في ديار الإسلام قبل كل شيء. وكما اعترف الخبراء الإسرائيليون أنفسهم متأخرين، فإن صواريخ إيران أصابت بعض مباني المفاعل ومحيطه.
وهل ينبغي لنا، نحن العرب، أن ننتظر حتى نصحو يومًا على أول تجربة نووية إيرانية لنطلب من الغرب الغوث، ولن يغيثنا، حتى لو كانت إسرائيل -التي صالحناها وندافع عنها جهارًا وليس سرًا، كما نتهم إيران – وسيطًا بيننا وبينه؟
من يظل في الظل لا ظل له. غزة ومجاهدوها أدركوا ذلك، وأعدوا له ما استطاعوا من عدة فبسطت غزة ظلها على الدنيا بأسرها، واسألوا، يا من تعيشون في الظل بلا ظل، عواصم الغرب التي هتفت باسم فلسطين الحرة وضنّ عليها بالهتاف والدعاء بعض ذوي القربى!