اتسع هجوم المستوطنين السبت الماضي 13 نيسان/ إبريل ليصل قرى شرق رام الله بما يحاذيها من قرى جنوب نابلس، فطال قرى المغير وأبو فلاح وترمسعيا وديردبوان ودوما وقصرة والساوية وعقربا، بل وصل إلى بوابة مخيم الجلزون ومشارف منطقة البالوع في مدينة البيرة بالقرب من مسكن الرئيس الفلسطيني وبعض المقرّات الأمنيّة المهمة للسلطة الفلسطينية.
وكالعادة، وفي هجمات مماثلة سابقة للمستوطنين العام الماضي 2023، في حوارة وترمسعيا وأم صفا، فإنّ النتيجة عشرات الإصابات وارتقاء شهداء وحرق عشرات المنازل والمحلات التجارية والمركبات، وهو ما يمكن وصفه بالتجارب المتعددة والمتقاربة الممهدة لمشروع "الحسم" في الضفة الغربية الذي تتبناه جماعات المستوطنين وقوى الصهيونية الدينية برعاية المؤسسة الإسرائيلية الرسمية.
ما ينبغي الوقوف عنده تأسيسًا وكشفًا للمشهد كلّه، أنّ هذه الهجمة الأخيرة جاءت بعد اختفاء مستوطن أثناء رعيه للأغنام في أراضٍ يُمنع سكانها الأصليون من الوصول إليها وفلاحتها أو رعيها أو البناء فيها أو استثمارها بأيّ نحو كان، هذا المستوطن الذي تبين أنه مقتول لاحقًا بدوافع قومية بحسب التعبير الإسرائيلي (أي قتله فلسطينيون بدوافع نضالية) هو أحد مستوطني بؤرة استيطانية صغيرة مزروعة في تلك المنطقة.
يمكن الانطلاق من هذه النقطة لتلخيص الموقف في النقاط التالية:
أولاً ـ تكرّس الحالة الاستيطانية لوجودها ماديًّا ومعنويًّا في الضفة الغربية بتجذير العلاقة بين المستوطن والأرض، فالمستوطن الشابّ المقتول بحسب الصورة المنشورة له، يتسم بمظاهر المتدينين الصهاينة، أشقر شديد البياض، يطيل سالفيه ويرتدي قبعة "الكيباه" ويركب حمارًا ويرعى نعاجًا في منطقة ممتدة بالخُضرة.
الصورة بهذا القدر، تُذكّر ببعض الأفلام الغربية القديمة المدفوعة بالدعاية الاستعمارية، حول "الملك داود الراعي" الذي أقام "مملكة إسرائيل" الأولى في فلسطين. الصورة تبدو تمامًا وكأنها لقطة من واحد من تلك الأفلام.
لكن الأمر الآن ليس دعائيًّا، فحياة الرعي وممارسة الفلاحة، من معالم الوجود الاستيطاني في الضفة الغربية، والعلاقة بالأرض المُستعمَرة تُلف بالتعبئة الإيديولوجية والرومانسية التاريخية والظروف الاجتماعية والممارسة العملية، فكل مستوطنة تضمّ مدرسة حقلية، تخلق ارتباطًا عضويًّا بين المستوطن والأرض، يمنحه الإحساس بالأصلانية.
في المقابل فإنّ الفلاحة الفلسطينية في طور الانقراض، لسبب مركّب من السياسة الاستعمارية الصهيونية والسياسات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية، فمن جهة صودر المجال الحيوي للامتداد الزراعي الفلسطيني في المناطق المعروفة بـ (C) وفق تقسيم أوسلو. هنا يجب ألا نغفل إذن عن كون جذر المأساة قد بدأ مع أوسلو.
هذه المناطق إمّا مصادرة بالفعل، أو لا يمكن للفلسطيني الوصول إليها إلا بأذونات خاصة من قوات الاحتلال، أو إنّ الوصول إليها يقتضي المخاطرة بالنفس لكونها محاطة بهذا النوع من المستوطنين والجنود الحراس الذين يستسهلون إطلاق النار على أيّ فلسطيني يعبر حقلاً يخصه بمحاذاة مستوطنة أو معسكر أو طريق التفافي أو حاجز عسكري، أو إنّ الاستثمار فيها يواجه احتمال الهدم والإتلاف من قوات الاحتلال، إذ يصعب الآن حصر بركسات الدجاج وحظائر الأغنام والحقول الزراعية وصهاريج المياه وما يتصل بذلك من معمار قائم على خدمة المزرعة أو الحقل مما هدمته وخرّبته قوات الاحتلال من أقصى جنوب الضفة الغربية إلى أقصى شمالها.
كاتب هذه المقالة يعيش في قرية محاذية لجنوبي مدينة رام الله وتمثّل بوابة قرى شمالي غرب القدس. هذه القرية صودرت أراضيها من ثلاث جهات متصلة، فمن الغرب صادر معسكر "عوفر" أخصب أراضيها، ومن الجنوب صادر الطريق الالتفافي وما أحاط به من بنية استعمارية كالجدار والسلك الفاصل سهولها الجنوبية، ومن الشرق يمتد الجدار والطريق الالتفافي والسلك، ويبقى الشمال الذي يصلها برام الله مصنفًا منطقة (C) مما يعني أنّ أي بناء في هذه المنطقة التي تصل القرية برام الله معرض للهدم في أيّ لحظة شاء الاحتلال. والحاصل أنّ هذه القرية قُضي عليها زراعيًّا تمامًا. لا يمكنني أن أتحدث اليوم جدّيًّا عن مزارع واحد في قريتنا.
لكن المشكلة لا تقتصر على هذه السياسة الاستعمارية، فالاقتصاد السياسي للسلطة الفلسطينية، شجّع على نمط من الاقتصاد الخدمي المنفكّ عن الأرض والذي لا يناسب شعبًا يتعرّض لهذا النوع من الاستعمار، دون وجود أيّ مقومات اقتصادية أخرى جدّية عصامية، زراعية كانت أو صناعية أو مهنية، والأخطر من ذلك ربط الشعب برمّته بالمؤسسة الإقراضية، فطبائع الاقتصاد الخدمي تستدعي أنماطًا من الرفاه الاجتماعي الشكلي خاصة به، تقوم وتستمر بالاقتراض، في منطقة صغيرة وقليلة عدد السكان ومعزولة عن العالم ولا يمكنها التواصل الداخلي السهل، وهو ما يثير الاستغراب من مشاريع كبرى كالمولات والفنادق والتجمعات الخدمية الكبيرة التي لا يمكنها أن تحوز على أي جدوى اقتصادية في ظروف كهذه ينعدم فيها المشغل البشري المحلي لقلة عدد السكان وصعوبات الحركة الداخلية وضعف القدرات الاقتصادية ولانعدام السياحة الداخلية أو الخارجية. أمّا المواطن الذي بالكاد يحوز على رأسمال متواضع مستند إلى المؤسسة الإقراضية فأوّل مشاريعه مطعم أو مقهى حديث، بحيث يمكن القول إنّ رام الله، المدينة النموذج، قد باتت "coffee shop" كبير!
غير منفصل عن ذلك تضخم ما يسمى بالوظيفة العمومية، براتب غير مستقر ومحدود أصلاً مع انعدام التوازن في آليات تحديد الرواتب بين مختلف الوظائف، ليبقى الموظف رهينة المؤسسة الإقراضية، وذلك إلى جانب الاعتماد الضخم على السوق الإسرائيلي الذي استقطب أعدادا هائلة من العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية حتى ما قبل 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وذلك دون وجود أدنى سياسة جدية لصياغة مجتمع عصامي من معالمه التمسك بالأرض وفلاحتها لا لأسباب اقتصادية اضطرارية، ولكن عودة بالفلسطيني إلى هويته الأصلانية وفي سياق المواجهة مع استعمار يسرق منه هذه الهوية ويجرّده من قدرته على تجسيدها ماديًّا.
ثانيًا ـ مشهد هجوم المستوطنات على القرى الفلسطينية ومداخل المدن وأحيائها المحاذية، نتيجة لتاريخ طويل من التمدد الاستيطاني الذي تعاظم من بعد توقيع اتفاقية أوسلو، مع افتقاد قيادة منظمة التحرير لأيّ إرادة لمراجعة مسارها الذي حوّل الضفة الغربية لدولة للمستوطنين؛ ليس فقط بزيادة البنى الاستيطانية أو زيادة أعداد المستوطنين، ولكن بإيجاد بنية استعمارية شاملة تصل الحالة الاستيطانية ببعضها وبالداخل المحتل، مع تحويل تجمعات الفلسطينيين، إلى ما يشبه الحظائر المعزولة، فالعزل لم يقتصر على فصل تجمعات الفلسطينيين الكبرى (شمال ووسط وجنوب) أو فصل الضفة الغربية عن القدس وتوسيع القدس الاستعمارية المسماة القدس الكبرى، بل إن الكثير من القرى الفلسطينية باتت معزولة ببوابات حديدية وقد فرض عليها مدخل واحد هو مخرجها في الوقت نفسه لتسهيل حصارها والسيطرة عليها، وبعضها معزولة بالكامل لا يمكن لسكان محيطها الدخول إليها.
لا يعني ذلك فقط استحالة إقامة دولة فلسطينية على الضفة الغربية، بل يكشف عن معالم خطة "الحسم" الإسرائيلية، والتي ما يبدو منها الآن من فصل عنصري (حرية حركة كاملة للمستوطنين في طرق خاصة بهم وشلّ حركة الفلسطينيين)، مجرد ملمح صغير في مشهد السيطرة على الفلسطيني وتوفير الظروف الكاملة لتهجيره.
المهمّ، أنّ هذه سياسة انتهجتها المؤسسة الإسرائيلية بكل حكوماتها المتعاقبة باختلاف مرجعياتها السياسية والفكرية، فما هو قائم ليس سياسة خاصة بنتنياهو وحلفائه في الصهيونية الدينية. والمقام لا يتسع لبيان الأسس التي يقوم عليها الإجماع الصهيوني على ضرورة الاستيطان بالضفة الغربية.
ثالثًا ـ هجمات المستوطنين تنفذها تنظيمات ومليشيات، فليست هجمات قطعان ولا شراذم، هذه التنظيمات لها بنى هرمية، وعلاقات عضوية داخلية، ومرجعيات سياسية، ومرجعيات دينية، وبعضها نشأ بتشجيع من المؤسسة الرسمية، وبعضها يتبع بالفعل أحزابًا في حكومة نتنياهو هذه، وبعضها سرايا داخل جيش الاحتلال.
من هذه التنظيمات "فتية التلال" التي تأسست استجابة لنداء من آرائيل شارون حينما كان وزيرًا للطاقة في حكومة نتنياهو الأولى، و"تدفيع الثمن" والتي هي أشبه بالائتلاف الجبهوي الذي يضم عددًا من الكيانات والمدارس الدينية الاستيطانية من ضمنهم أنصار حركة "كاخ"، و"تمرد" وهو التنظيم المسؤول عن إحراق عائلة دوابشة وكنيسة في طبريا وممتلكات الفلسطينين في حوارة وهو امتداد لحركة "كاخ"، و"نحالا" التي يمكن عدها ذراعًا من أذرع حزب "الصهيونية الدينية"، و"لاهفا" التي هي امتداد كذلك لحركة "كاخ" ويقودها مستشار إيتمار بن غفير زعيم حزب "القوة اليهودية" ووزير ما يسمى "الأمن القومي"، و"نيتساح يهودا" والذي هو أساسًا كتيبة داخل جيش الاحتلال قوامها الأساس من المستوطنين المتدينين بالضفة، و"لافاميليا" والتي هي تطوّر عنصري عن روابط مشجعي أندية كرة القدم الصهيونية.
هذه الجماعات وغيرها تحظى بحماية الجيش، وتسليح أحزاب في حكومة نتنياهو، وصار لها نفوذ مرسم قانونيًّا في وزارة الجيش، من خلال الوزارة التي منحت لـ بتسلئيل سموتريش، المستوطن وزعيم الصهيونية الدينية ووزير المالية والوزير داخل وزارة "الدفاع"، فمن وزارته الجديدة يشرف على الحالة الاستيطانية كلّها بالضفة، في حين تشرف "وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق" (الصيغة الجديدة للإدارة المدنية) على الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال العسكري، مما يعني ضمًّا فعليًّا واحتلالاً مدنيًّا يمثله سموترتش، واحتلالاً عسكريًّا واجهته "وحدة التنسيق".
هذا الواقع أوّل ما ينبغي أن يُذكّر به هو عصابات "الهاغاناه"، و"الإرغون" (إتسيل)، و"شتيرن"، و"ليحي"، التي مارست التهجير والتطهير العرقي والمذابح في سياقات نكبة العام 1948 قبل هذا التاريخ وبعده.
وبينما يمتد المشروع الصهيوني اليوم في الضفة من لحظات التأسيس الاستعماري الصهيوني من قبل النكبة وبالصور والأدوات نفسها، ومنها الأحزاب المنظمة، يجري تحطيم التنظيمات الفلسطينية وتفكيكها بالسياسة الرسمية الفلسطينية، دون أن يكون للسلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير أي مشروع لحماية الفلسطينيين وتعزيز صمودهم ومراجعة المسار الذي وصل بهم إلى هنا.
رابعًا ـ وليس آخرًا.. فالقضية أكبر وأخطر من أن يؤتى عليها في مقالة قصيرة. والهجمات الأخيرة لم تحظ بالتغطية الإعلامية المناسبة لأنها جاءت أثناء الضربة الإيرانية للكيان الإسرائيلي. فإنّ ما ينبغي التذكير به أن هجمات الحرق ممتدة منذ عشر سنوات (حرق الطفل محمد أبو خضير في 2014 وحرق عائلة دوابشة في 2015)، في حين كان العام الماضي قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر عام الحرق واستباحة القرى الفلسطينية، وهو ما يعود بتخطئة كل الآراء النقدية التي تختصر الحرب العدوانية على غزة بسوء التقدير السياسي لحماس في عمليتها "طوفان الأقصى"، فهذه هي حياة الفلسطيني بالضفة الغربية، وما ينتظره بات واضحًا إذا أخذنا هذا المسار التاريخي المطّرد وهذه الحقائق بعين الاعتبار.