فلسطين أون لاين

أعدمها جنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاء

تقرير رحلة "قريقع" في البحث عن أمه .. شوق لعناقها انتهى بدموع على جسدها المتحلل

...
رحلة "قريقع" في البحث عن أمه .. شوق لعناقها انتهى بدموع على جسدها المتحلل
غزة/ يحيى اليعقوبي:

يتنقل بين المستشفيات والمدارس وأزقة المخيمات يسأل عنها بين ركام البيوت المهدمة، وهو يقطعُ مسافات طويلة مشيًا على الأقدام على مدار أسبوعين متواصلين من البحث المتواصل تعلق ببصيص أملٍ أن يعثر على أمه التي فقد التواصل معها لحظة اقتحام قوات جيش الاحتلال لمستشفى الشفاء الساعة الثانية فجر يوم 18 أذار/ مارس الماضي، لم يزره النوم ولم يعرف طعم للراحة في أيام عصيبة احتل القلق قلبه وأحكم السيطرة على أفكاره.

مع بزوغ فجر الأول من نيسان/ ابريل الجاري، أطلت شمس إبريل حزينة على قطاع غزة، وبانت محرقة الاحتلال بحق مستشفى الشفاء، بعد إحراق جنود الاحتلال كافة مباني المشفى، وتفجير وتدمير مئات المنازل المحيطة به، عشرات من جثث الشهداء وجدت ملقاة على الأرض داخل المشفى وخارجها، على أدراج البيوت وبداخل الشقق وخلف جذوع الشجر التي حاولوا الاحتماء بها من رصاص الاحتلال وآلياته ولكل منهم حكاية.

حمل قريقع نفسه، وغادر مسرعًا نحو مستشفى الشفاء، يغمره الشوق لرؤية أمه واحتضانها، متأملاً أن يعثر عليها بين المرضى المحتجزين أو المصابين، أو في أحد البيوت المجاورة.

جسد متحلل

"هي أمي" أطلق محمد صرخة دوى صداها داخل قلبه، ممزوجة بالقهر، لم يختلط الأمر عليه في التعرف على تلك السيدة النائمة على أحد الأدراج توجه وجهها نحو الأرض تتوسطها بقعة دماء كبيرة، تحلل معظم أجزاء جسدها.

 في غياب كامل معالمها تعرف عليها من أظافرها وبعض ملابسها ولون شعرها الأبيض، أخبره شهود عيان أنها أعدمت بدم بارد أثناء محاولتها البحث عنه عندما افترقا.

بعينين دامعتين ووجه كساه الحزن وقلب مكلوم وضع محمد النقطة الأخيرة في رحلة بحثه عن أمه، وبدلا من العودة بها إلى المنزل كما كان يتوقع، غطاها بالكفن وحملها وسار بها تجاه المشفى المعمداني وواراها الثرى، رحلت أمه المسنة شهيدة بعد إعدامها بدم بارد بمحيط مستشفى الشفاء.

"كنت متواجدا مع أمي كنازحين وكنت برفقتها لعدة أيام في مبنى قسم الكلى خلف مبنى الجراحات التخصصي بمستشفى الشفاء، وكان آخر لقاء بيننا عندما ذهبنا للخيمة باتجاه آخر ممر داخل قسم الكلى، فدخل أحد الشباب الذي أرسله جيش الاحتلال وأخبرنا بضرورة فرز النساء على جهة والرجال على جهة أخرى فتم تفتيشنا وتعريتنا (الرجال)" يروي قريقع لصحيفة "فلسطين" قصته لحظة اقتحام مجمع الشفاء الطبي.

يحرك صوته المكلوم بوجع الفراق بقية التفاصيل "كانت طائرة كوادي كابتر (حوامة) تحلق فوق رؤوسنا تصور كل الموجودين داخل المبنى، شاهدت أمي تمشي وهي ترفع يديها للأعلى، وهكذا حال النساء جميعًا".

يغلف القهر صوته "خرجت من المشفى يوم الإثنين المغرب، عاريًا ووصلت المستشفى المعمداني وأخذت قسطًا من الراحة ثم توجهت لمدرسة الدرج وفي الطريق قابلت شابا كان معي بقسم الكلى وبقيت زوجته بالمشفى، فاتصلتُ بها لأطمئن على أمي، فأخبرتني أنها بجوارها وبخير".

"كيف حالك يما يا حبيبي، ما عندي ميه (ماء) أشرب الدواء ما عندي أكل، نمت على الأرض" يستمع لصوت أمه المنهك بعد ساعات احتجاج قاسية على الطرف الآخر من سماعة الهاتف، لا يقوى على فعل شيء سوى الدعاء وطمأنتها " إن شاء الله حنلتقي".

 انتهت المكالمة على أملٍ لقاءٍ قريب بين الأم ونجلها مع بدء مغادرة العائلات المحتجزة المستشفى في ساعات المساء، ساروا بين صوت الرصاص والصواريخ وعيون القناصة وطائرات الاحتلال.

رفض النزوح

انتهت المكالمة مع والدته، واستقبل محمد مكالمة من رفيقة أمه في رحلة النزوح داخل المشفى، تخبره بفشل كل محاولاتها إقناع أمه بالنزوح معها نحو جنوب القطاع، فرفضت الفكرة دون نجلها محمد، يعلق: "أخبرتني السيدة أنها أمنت أمي لسيدة أخرى متجهة نحو مدرسة الدرج، لكنها فقدت أمي عند مدخل قسم الطوارئ فتفرقوا".

خرجت النساء من البوابة الجنوبية للمشفى، والتفوا باتجاه شارع عمر المختار، بعضهن غادرن نحو حي الزيتون والدرج أو جنوب القطاع، ينقل عن شهود عيان شاهدن أمه "قبالة قسم الولادة وجدتُ أمي ممددة على الأرض، نظرتُ من بعيد فقلت "هذه أمي" وجدتها نائمة وكأنها في بيتها، جسدها منتفخ بشكل كبير، الجثمان متحلل بشكل شبه كامل، معالم الوجه ليست واضحة فعرفتها من أظافرها المميزة بوجود خطوط ولا يوجد فيها خشونة، كذلك من أذنها وشعرها الأبيض وبعض الملابس".

"شهود عيان أبلغوني أنها أعدمت بدم بارد، وأنَّ أمي واحدة من مئات من أعدموا بمحيط المشفى، أمي مسكينة ومزارعة إنسانة بسيطة لا تحتفظ حتى أرقام الهواتف لشدة بساطتها، ولا تعرف الطرقات فيبدو أنها جلست على الأرض، وكانت تنادن علي أو تنتظر قدومي لأخذها من المكان كانت تطلب النجدة وتنادي كون نظرها ضعيف ولم تستطع الرؤية جيدا في المساء: "اقفوا معي" لكن العائلات كل امرأة مع بناتها أو أقاربها مع حلول المساء" يرافق الحزن صوته.

يتدفق القهر من قلبه "ليس لها علاقة بشيء، امرأة مسنة يناهز عمرها 65 عاما تعدم بدم بارد، عاشت طيبة مسكينة وماتت شهيدة!؟".

عانت أمه من بداية الحرب نتيجة مضاعفة حالاتها الصحية، كونها مريضة قلب وتعاني من ضغط الدم المزمن والسكر، ومن اشتداد المجاعة بغزة فبالكاد كانت تستطيع توفير قليل من الطعام، "لم أتخيل أن تتواجد بالمشفى وتعدم، ما يؤلم أنني لم أستطع العودة إليها لأن الظرف قاس ومن الصعب لأي شخص التواجد في تلك المنطقة".

تعلقت أمه به وتشوقت لرؤية أطفاله الثلاثة أكبرهم في رياض الأطفال وأصغرهم ولد في الحرب ولم تره، ورحلت تحمل أشواقها التي لم تتكحل برؤيتهم.

المصدر / فلسطين أون لاين