أخيرا أمكن إمرار قرار في مجلس الأمن لا يُرضي "إسرائيل" ولا داعمتها الكبرى الولايات المتحدة، ويدعو لوقف فوري لإطلاق النار في شهر رمضان المبارك، وإن كان القرار الذي بات يحمل الرقم (2728) لا يتسم بالإنصاف للشعب الفلسطيني، ولا يدعو لوقف دائم لإطلاق نار ، ويُضمّن مطالبه الفورية الإطلاق غير المشروط للأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، متجاهلا المأساة المفتوحة منذ عقود لآلاف الأسرى الفلسطينيين وعوائلهم الممتدة، إلا أنّه وأخيرا بات ممكنا إقناع الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت، الأمر الذي يمكن استثماره لدى حركة حماس بتحسين موقفها التفاوضي، وكسر حدة الضغوط المفروضة عليها في الآونة الأخيرة.
هذا القرار، والموقف الأمريكي المتحفظ تجاهه، لن ينفصل عن الضخّ الإعلامي المكثف في الآونة الأخيرة؛ عن تباينات أمريكية إسرائيلية، دون أن يتبين أحد بالقطع واليقين طبيعة هذه الخلافات، إذ الحديث يجري عن تباينات، ويُترَك للمساكين من المتابعين العرب فرصة حلّ لغز هذه الخلافات. فباستثناء ما بات يقال عن اعتراض أمريكي أكثر وضوحا هذه المرّة على غزو إسرائيلي محتمل لرفح، بعدما كان الاعتراض الأمريكي من قبل لا يتعلق بمبدأ الغزو وإنما بضرورة وجود خطّة لهذا الغزوّ، فإن الحديث عن تباينات قد بدأ منذ أربعة شهور، وعلى الأقل، ومنذ كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، والتسريبات الأمريكية تتحدث عن نهاية قريبة للحرب، قيل حينها إنها ستكون في النصف الثاني من كانون الأول/ يناير، وها هي الحرب الآن تمضي نحو نيسان/ أبريل.
المقصود من ذلك كلّه أن قصّة التباينات الأمريكية الإسرائيلية، في هذه الحرب، ليست جديدة ولم تبدأ للتوّ، إلا أنّنا نغرق فيها وكأنّ تحوّلا لهذه الإدارة الأمريكية قد استجدّ، وذلك علاوة على المبالغة في وصف هذا التحوّل والتعاطي معه.
هذا الغرق في تفسير الخطابات الأمريكية التي تأخذ شكل التسريب، وتبدو أكثر نعومة في التصريحات الرسمية حين حديثها عن تباينات مع حكومة بنيامين نتنياهو، يصرفنا أولا عن كون هذه التباينات غامضة، وعن كون غرقنا في تفسيرها انعكاسا لعجز هذا العالم، الذي ينتظر أدنى إشارة تحوّل تافهة من الولايات المتحدة، ويُخرج من التداول مسؤولية هذه الإمبراطورية عن بلوغ الحرب هذه الدرجة من الإبادة والتدمير وتخويف العالم لحشره داخل الحدود الأمريكية، علاوة على مدّها "إسرائيل" بكلّ ما يلزم للاستمرار في حملة الإبادة والتجويع والتطهير العرقي.
أمريكا، بعد امتناعها عن التصويت، لا تكفّ عن التوجّه الاعتذاري للكيان الإسرائيلي، بكون القرار غير ملزم، ولن يؤثّر على المجريات الحربية الإسرائيلية، وهو ما يعني حين الترجمة العملية أنّ الدعم الأمريكي للخيارات الحربية الإسرائيلية لن يتوقف، وأنّ محاولات التأثير الأمريكية ستنحصر في الضغط الناعم البطيء بالتواصل المباشر مع "إسرائيل" بما هو أقرب للنقاش داخل البيت الواحد. فهذا القرار جاء والحرب تكاد تدخل شهرها السابع، والإطار الزمني للقرار، أي شهر رمضان، في حكم المنتهي، وذلك أصلا، وكما سبق قوله، بعد شهور من بدء ظهور إشارات أمريكية عن تباينات مع الكيان الإسرائيلي، فكم يلزم من الوقت، وماذا ينبغي أن يكون قد حصل، ليصير الموقف الأمريكي أكثر عملية قي تصحيح جريمة دعم حرب الإبادة الجماعية؟!
التجربة التاريخية مع مواقف الأمريكية تفيد؛ أنّه وفي حال لم تُخضع الإمبراطورية وكيلها الإسرائيلي لإرادتها فإنه لا يمكنها إلا الاستمرار في دعمه ما دامت حروبه قائمة، ووجهات النظر المتباينة مجرد هوامش لتحسين الحرب على متن الحرب!
خلال الشهور الماضية غرقنا في التسريبات الإسرائيلية حول مفاوضات الهدنة، وكان يتبين باستمرار أنّها عمليات استهداف نفسي سواء للمجتمع الإسرائيلي أو للشعب الفلسطيني، وبإزاء ذلك لم يتوقف الحديث عن خلافات إسرائيلية داخلية، بالرغم من أنّها طوال هذه الشهور لم تؤثر على الحرب قرارا ومسارا، ليكون الحديث عن التباينات الأمريكية الإسرائيلية مندرجا في الصورة نفسها، من حيث إغراق العالم بالتفاصيل، وصرفه عن القضايا الجوهرية، بل وصرفه بمراقبة تلك التفاصيل؛ عن الواجبات المترتبة على الجميع، وكأنّ العالم هذه المرة هو الهامش على المتن الإسرائيلي!
لا يعكس هذا الغرق ما سلف فحسب، ولكن هناك أيضا جهل بالسياسة الأمريكية، وطبيعة العلاقة الأمريكية الإسرائيلية التي ظلّت لغزا يحيّر العالم، فالحيرة تكاد تكون الوصف الوحيد الممكن إطلاقه على تخمينات المعقبين على السياسة الأمريكية على هذه الحرب، بما في ذلك أولئك الذين يفترض أنهم أكثر معرفة بالسياسة الأمريكية، بحكم التخصص والدراسة أو بحكم العيش في الولايات المتحدة والانخراط في الفعاليات السياسية داخلها.
كل ما يمكن قوله في الخلاصة حول ذلك كلّه، أنّ منطق الهيمنة هو المحرك للولايات المتحدة، وأنّ "إسرائيل" مشروعها الاستعماري العنصري الأثير في منطقتنا، وأنّ التباينات لا تخرج عن كونها داخلية، وأنّها لا تأتي بالنقض على الدعم الأمريكي لأيّ حرب "إسرائيلية" ما دامت قائمة.
الخلاصة الأهم من ذلك، هي أنّ الولايات المتحدة متفاجئة من طول الحرب، ومن صمود الشعب الفلسطيني، وصمود حركة حماس. لقد عبّرت الولايات المتحدة عن ذلك صراحة حينما قالت إن عدم استسلام حماس هو الذي أطال الحرب، وهو تعبير متورط في مغالطة تحاول أن تطمس أنّ العدوان الإسرائيلي كان قد حصّل من الدمار والقتل في أيامه الأولى ما جعل ما تلاه بعد ذلك زيادة في الدرجة لا في النوع.
الحديث عن صمود الفلسطينيين هو حديث مؤلم، لأنه حديث من لا يدفع ثمن الصمود معهم، وهو ثمن فادح لم يكن متصوّرا في أيّ وقت سابق، لكنه من جهة أخرى يؤشّر على الإمكانيات الفعلية للعرب والمسلمين لكبح الحرب الإسرائيلية ودفع الولايات المتحدة نحو سياسة أقل عدوانية واندفاعا في دعم الإسرائيلي. صمود المقاومة الفلسطينية كان يعني أن إسنادا لها من حلفائها متجاوزا الحدود الراهنة، وفاعلية جماهيرية عربية أوسع وأكثر ديمومة وعمقا، وسياسات رسمية عربية أكثر شجاعة، من شأنه أن يضع حدّا لهذه الحرب رغما عن الولايات المتحدة.