"سمعنا صوت مكبرات الصوت مصدرها جنود جيش الاحتلال: "أي حدا بطلع سيتم إطلاق النار عليه"، التزمنا بالتعليمات وحبسنا أنفسنا بغرفة سليمة داخل بيتنا الذي تعرض للقصف أكثر من مرة. احتمينا بداخلها من الرصاص الهستيري وألهجت ألستنا بالدعاء وقراءة القرآن".
بين رعبٍ وخوفٍ، وخطوط رصاصات تتسابق في اقتحام المنزل المليء بفتحات أحدثتها القذائف يكسر ضوء ارتطامها بحجارة البيت من الداخل عتمة منزلهم الواقع بمحيط مستشفى الشفاء لحظة اقتحامه فجر الثامن عشر من مارس/ أذار 2024، فعاشت هبة أبو حصيرة ووالدتها وأخوتها الثلاثة لحظات عصيبة يشاهدون الرصاص ينهال عليهم.
حتى الحادية عشرة صباحًا، حبست بشرى أبو حصيرة (55 عاما) وشقيقتاها رزان (25 عاما) ورانيا (19 عاما) وشقيقهم الوحيد سيف (21 عاما) بداخل تلك الغرفة فأمضوا يومهم صائمين بلا سحور، متحملين الجوع والعطش، ومواصلين التضرع إلى الله، لتعيش هبة (25 عاما) التي تعمل ممرضة أصعب صدمة في حياتها عندما اقتحم نحو سبعة جنود منزلهم وبدأوا بإطلاق الرصاص بشكل هستيري داخل المنزل.
وحيدة بلا عائلة
تصلبت عينا هبة التي تجلس في زاوية الغرفة، لحظة اقتحام أحد الجنود الغرفة وقام بإطلاق النار على أمها وشقيقتيها اللتين احتميا بحضن والدتهن بلا رحمة ثم أعدم شقيقها، تجرعت قسوة المشهد كاملا لم تغلق عينيها فكانت تنتظر دورها التالي لحظة اشهار الجندي سلاحه نحوها تريد استقبال الموت بعينين مفتوحتين تمتلئان بالدموع والرعب، لكنه لم يقتلها، وكأنّه اختار لها سلاح القهر بإبقائها حية وحيدة.
من صوتها المنهك يستمع "فلسطين أون لاين" لقصة مجزرة بشعة ارتكبها جنود الاحتلال بحق عائلتها "اقتادوني إلى الصالون وكنت في كل مرة أطلب منه أن يسمح لي برؤية أهلي، خاصة أنني رأيت رصاصة واحدة أصابت أختي رزان وكانت تتألم أي أنها على قيد الحياة فطلبت اسعافها، وكان يرفض في كل مرة ويشهر السلاح بوجهي".
تقول وهي تنتشل بقية التفاصيل من ذاكرتها المثقلة بالوجع "أخرجت تحت تهديد السلاح والكلام البذيء من المنزل، كنت أرتدي رداء الصلاة عندما طلب مني الابتعاد، رفض السماح لي بارتداء حذاء فخرجت حافية القدمين أسير بين الدبابات أطلقت إحداها رصاصة نحوي شعرت باحتكاكها لذراعي ولولا عناية الله لكنت شهيدة".
سارت "هبة" مرتجفة الأطراف بين أكثر من عشر دبابات كل واحدة تصوّب مدفعها ورشاشاتها نحوها، "كنت أرفض مغادرة المكان، أريد الاطمئنان على أهلي ومعرفة مصيرهم حتى لو كانوا شهداء، فصرخات أختي رزان تسرق النوم مني جفني واستقر بي الحال عند عائلة لا أعرفها فتحت لي أبوابها حتى هدوء الأوضاع" قالتها بدموع زاحمت صوتها.
منذ بداية حرب الإبادة على غزة ومع بدء الاجتياح البري للقطاع، وكحال بقية أهالي القطاع كانت هبة وعائلتها تغادر المنطقة مع كل اجتياح لمستشفى الشفاء أو استهداف قريب ثم تعود، وبين كر وفر من الموت عاشت العائلة حياة تشرد، بالكاد تجد ما يسد رمقها بالقليل من الطعام، "أذكر أنه في وقت كان طعامنا الوحيد صلصة الطماطم "كاتشب"، وكانت أمي تخرج لتقطف الخبيزة والحماصيص من بين الأراضي وتطهوها لنا".
داخل بيت تملؤه فتحتات تطل على الشارع بفعل قذائف مدفعية الاحتلال وزوارقه البحرية تشبثت العائلة فيه حتى آخر أنفاسها، رافضة النزوح حتى استقر بها الحال لأن تعيش بغرفة وحيدة بقيت سليمة.
الفقد سيتسع يا "هبة"!
"هبة" التي تيتمت مبكرا بعد استشهاد والدها رأفت أبو حصيرة عام 2004، وعاشت مع أشقائها وأمها حياة فقد، لم تدرك أن الفقد سيتسع في قلبها وأن الجرح سيتعمق فيه إلى حد ترحل فيه العائلة دفعة واحدة وتتركها تواجه الحرب والحياة وحيدة، هي وشقيقة لها متزوجة.
عن أحلام كثيرة كانت تملأ حياة العائلة، تقول: "أختي رزان تدرس الخدمة الاجتماعية والتعليم الأساسي كانت تحلم بالتخرج وتكوين أسرة، في الحرب كنت أرى خوفها مع اشتداد القصف أو قربه منا، رانيا التي تدرس المستوى الأول بتخصص اللغة العربية كان حلمها التخرج، أما أخي سيف فكان يتمنى أن يتخرج ويعمل ويستقر وكان حلمي أمي أن تفرح به".
بعد انسحاب الاحتلال من مستشفى الشفاء في الاجتياح البري الأول قبل عدة أشهر، كانت هبة أول ممرضة تعود لعملها حفزتها كلمات أمها لها التي تطل عليها من جيوب الذاكرة "ساعدي الناس المصابة، اصبري عليهم وأسعفيهم".
تكمل: "توليت مسؤولية تدريب المتطوعين حتى عادت الطواقم الطبية من تمريض وأطباء تدريجيا، واقتربت المشفى من العودة لتقديم الخدمة بأفضل حال قبل الاجتياح الثاني قبل أسبوعين لولا الاجتياح المفاجئ من جنود جيش الاحتلال".
ما يقهر هذه الممرضة التي أسعفت مصابين كثر أنها وقفت عاجزة أمام إسعاف عائلتها خاصة شقيقتها المصابة رزان، وتناشد بمساعدتها لمعرفة مصيهم، تردف بصوت مكلوم "من حقي معرفة مصيرهم، أمنيتي أراهم وأحتضنهم حتى لو مستشهدين. لا أنام كل ليلة فتخيل أنك تعمل بالمجال الطبي ولا تستطيع مد يدك لأهلك".