فلسطين أون لاين

كيف أسّس "الإسقاط الجوي" لواقع كارثي جديد في غزة؟

حين نُودي في كلّ وادٍ بالإسقاط الجويّ، كان نداء الجائع الذي بلا حيلة، إلى الأنظمة العربية والإسلامية والعالم، بدافع التحرّر من سياسة الاحتلال، وتهديداته، وإرسال الطعام إلى الجوعى رغم أنفه في كلّ منطقة بالقطاع المحاصرة، من دون تنسيق ولا تطبيع، لأنّ غزّة (يا للعجب) أرض فلسطينية خالصة، وليست أجواءً إسرائيلية مختطفة، وأيّ اعتداء على طيران عربي أو أجنبيّ في أجوائها بمثابة إعلان حرب فعلية من تل أبيب على الدولة المجني عليها، ومن هذا المنطلق وحده كان النداء، بجانب استمرار الضغط لإدخالِ المساعدات من رفح، لعلّ الجرأة والكرامة تجري في دم أحدهم فيرسل ما يحتجزه خلف أسواره، بلا خيانة أو جبن.

لكن ما حدث كان إحلال المساعدات المسقَطة جوًّا، وهي لا تكفي سكان بناية واحدة في قطاع المليونين ونصف المليون نسمة، بديلًا عن المساعدات المارة في قوافل برّية، ومن ثم كان ذلك السيناريو الذي لم يخطر على بال الاحتلال أفضل منه، ولا في أحلامه، لأنّه كذلك يمنحه صورةً أخلاقية، ولو مزيّفة ومؤقتة وصغيرة، ولكنها تفيده في معاركه الإعلامية التي خسر أكثرها؛ كان الإسقاط (الذي قتل من أهل غزّة من قتل)، هديةً من الدول العربية صاحبة الإنزالات وذوي الجلالات، إلى رئيس الوزراء الموهوم المحاصَر بالخسائر في مكتبه بتل أبيب.. ولعل شكرًا التي وصلت من تحت الطاولة، تلبّي آمال الحكام كذلك، في الرصيد الأخلاقي الذي يودّون إضافته إلى سموّهم.

الكثير من البروباغندا، والقليل من الطحين، تلك هي المعادلة المرجوّة التي عملت عليها الأنظمة العربية المجاورة لقطاع غزّة طيلة الفترة الماضية، حتى استطاعت ببراعةٍ تحقيق نتيجتين؛ إطعام أسماك غزّة من المأكولات الملقاة في البحر، وتسليح الاحتلال الإسرائيلي بأداة جديدة مبتكرة، هي حصر المساعدات بتلك القادمة جوًّا من الأعلى، مع غلق أيّة منافذ أو احتمالات أو سيناريوهات لإرسالها برًّا على الأرض، حيث لن يأكل أهل غزّة بالوقوف طوابير على منافذ تديرها حكومة غزّة، ولن يحصلوا على حفنة طحين واحدة إلا من خلالنا نحن، إسرائيل، ورجالها في المنطقة، في حين نرى من فوق، آلافًا يتعاركون كالدجاج على لقمة واحدة. تخيّل أن تجوّع ألف دجاجة ستة أشهر ثم تلقي إليهم بعد ذلك كلّه، لمن عاش منهم، حبّة شعير واحدة، ماذا سيحدث؟ هكذا يرانا المحتل الوقح، ومن يواليه، وحاشا لأهل غزّة أن يكونوا كذلك، وهم أعلى وأعظم وأجلّ.

ومن هذا المنطلق، عاد الاحتلال فجأةً في فجر شبيه بفجر الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ليقتحم مستشفى الشفاء، معتقلًا وقاتلًا وسافكًا الدماء، بحثًا عن مدير الشرطة في غزّة، فائق المبحوح، الذي استطاع بقدرة قادر، بعون الله، وبحيلته ودهائه، وفطنة رجاله وتضحيتهم، أن يُدخل 13 شاحنة طحين إلى شمال القطاع لأوّل مرّة منذ نحو 4 أشهر، ليحصّلوا صورة نصر يدّعونه، وليعاقبوا من يحاول إكرام أهل غزّة، وأن يمنع السيناريو الذي طيّرت إسرائيل لأجله الطائرات العربية في الأجواء الفلسطينية، فاشتبك معهم، وحيدًا، بـ13 رصاصة من مسدسه الشخصيّ، وأوقع فيهم قتيلًا وجرحى، حتى استشهد صائمًا مشتبكًا بعدما أطعم نحو ربع مليون إنسان ذات ليلة عزيزة معتمة، وهو أبو العز، الشهيد.

واليوم، يغتال الاحتلال رائد البنا، مدير المباحث في شمال غزّة، الرجل المسؤول عن هذه العملية أيضًا، التي باتت ومثيلاتها، عملية استشهادية، لتوفير الطحين، وما أشبه اليوم بالبارحة في كمين المطاحن في سورية، حين حاول الشبان المقاتلون تأمين الطحين لأهلهم المحاصرين في حمص، فاستشهد 60 من خيرتهم، بعدما أطبق عليهم الجزار السوريّ قبضته، وكمينه، لكن اليوم، ليس الذي ارتكب الجريمة وأعدَّ الكمين نظامًا عسكريًّا، ولا احتلالًا حربيًّا فقط، وإنّما أنظمة عربية، ابتكرت كيف تُصنع الأشلاء البشرية من شكائر الطحين.

ولذا بُحت أصواتنا ونحن نقول توّقفوا عن الإسقاط الجويّ، لأنّ تلك خدعة لا تنطلي علينا، لتلميع صوركم بدموع الجياع، وإنّما لأنكم تحاولون ترجمة النص على خلاف المقصود منه، وتلك مهنة قديمة، وضيعة، ذليلة، حقيرة، امتهنها الخونة، شذّاذ الآفاق، في كلّ ملّة، وعرق، وتاريخ.