بعد تزايد جرائم الإبادة في قطاع غزة، وعجز الأمم المتحدة عن اتخاذ الإجراءات اللازمة والحاسمة لوقفها، بات العديدُ من التساؤلات يُطرح عن جدوى القانون الدوليّ، وجدوى وجود الأمم المتحدة في ظل عدم قدرتها على تحقيق مقاصدها.
وبعد تعثُّر مسار محكمة العدل الدولية في وقف جريمة الإبادة في قطاع غزة على الأقل في المدى المنظور، نطرح في هذا المقال موضوع المسارات الممكنة قانونًا وحقوقيًا لملاحقة ومحاسبة قادة إسرائيل على جرائمهم بحق السكان المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما هي فرص نجاحها؟
أولًا: مسار الآليات القضائية الداخلية
طبقًا لمبدأ الشخصية، يمكن أن تقوم محكمة وطنية إسرائيلية تكون مختصة قانونًا بمحاكمة مرتكبي الجرائم في قطاع غزة، ما دام الجناة من مواطنيها. فضلًا عن ذلك، فإن اتفاقيات جنيف الأربع تلزم إسرائيل بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية في قطاع غزة، ودفع التعويضات للضحايا.
إن هذا المسار غير ممكن أبدًا؛ لأن المحاكم الإسرائيلية هي أداة من أدوات الاحتلال. كذلك لم يثبت في تاريخ دولة الاحتلال أنها حاكمت قائدًا سياسيًا أو عسكريًا أو حتى جنديًا، محاكمة عادلة على ارتكاب جرائم بحق الفلسطينيين أو حتى العرب.
ثانيًا: مسار محكمة جنائية داخلية ذات اختصاص عالمي
بالنظر إلى خصوصية الجرائم الدولية التي تشكل إخلالًا بالأمن والسلم الدوليين، قرر العديد من الدول أن تكون محاكمها الداخلية ذات اختصاص عالمي. وبناءً عليه، بإمكان أي دولة في العالم أن تقبض على مجرمين إسرائيليين ومحاكمتهم. إن مبدأ الاختصاص العالمي مدرج في بنود مواد مشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع، وكذلك في الفقرة الأولى من المادة 86، البروتوكول الأول.
إن هذه المسألة تحتاج إلى بحث معمق في قوانين الدول المحلية؛ لمعرفة الدول التي تقرّ محاكمة مجرمي الحرب. وفي شهر يناير/ كانون الثاني من العام الجاري، رُفعت دعوى جنائية ضد الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ تزامنًا مع حضوره في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس السويسرية، صحيح أن الشرطة لم تقم بتوقيفه والتحقيق معه، لكن هذه الدعوى أثارت القلق والخوف لدى قيادات إسرائيلية كثيرة.
على الرغم من أهمية هذا المسار، إلا أنه محفوف بالكثير من التحديات؛ لأن الإرادة السياسية لكل دولة تعدّ أمرًا حاسمًا لنجاحه.
أصدر القضاء البريطاني أمرًا بالقبض على وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني بتاريخ 14 ديسمبر/ كانون الأول 2009، الأمر الذي جعلها تتراجع عن زيارة لندن. لكن في المقابل، فإن العديد من المحاكم الأوروبية قد تتعرض لضغوط من طرف الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، كما حدث في قضية شارون أمام القضاء البلجيكي بخصوص مذبحة صبرا وشاتيلا في سبتمبر/ أيلول عام 1982.
إن الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، يمكنها أن تعدّل في نظامها القضائي (إن لم يكن ذا اختصاص عالمي)، ويقبل بالتالي قضاؤها الدعاوى المرفوعة على مجرمي الحرب الإسرائيليين، ما يخوّلها أن تطلب المجرمين عبر الإنتربول لمحاكمتهم.
فالقوانين المصرية مثلًا، تجيز للقاضي أن ينظر في مثل هذه القضايا، وسبق لمصر أن قبلت دعاوى مرفوعة على شارون، لكن فيما بعد مُورست عليها ضغوط سياسية وسحبت هذه القضايا.
ثالثًا: مسار محكمة جنائية عربية
إن جامعة الدول العربية هي منظمة إقليمية، وفلسطين عضو في هذه الجامعة. ولا مانع قانونيًا لتشكيل محكمة جنائية إقليمية لمحاكمة مجرمي الحرب. وكان مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية قد طالب بتشكيل محكمة جنائية لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين في ختام أعمال دورته العادية رقْم 116 في سبتمبر/أيلول 2001.
ولا يمكن للدول العربية أن تنتظر مجلس الأمن كي يُنشئ محكمة دولية خاصة على غرار محكمة يوغوسلافيا أو رواندا أو غيرها، أو أن يطلب من المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، كما فعل في قضية دارفور.
إن غياب الإرادة السياسية العربية هو الذي يحول دون إنشاء هذه المحكمة، وهو الذي يشجّع الاحتلال على ارتكاب المزيد من الجرائم. إن هذا المسار يمكن أن يحقق مكاسب قانونية كبيرة جدًا، ويمكن أن يشكل علامة فارقة في تاريخ المحاكم الجنائية الدولية.
رابعًا: مسار المحكمة الجنائية الدولية
تُعَدّ ولادة المحكمة الجنائية الدولية أمرًا مهمًا على صعيد القانون الدولي الجنائي، ولا سيما فيما يتعلق بتقنين العديد من القوانين الدولية الجديدة وتدوينها، وخاصة أن ما توصل له مشرّعو النظام الأساسي للمحكمة، جاء بعد سلسلة امتدت لأكثر من قرن من الزمان لجهود حثيثة في معالجة موضوع الجريمة الدولية.
ولكن من ناحية عملية فشلت المحكمة الجنائية الدولية بالبدء بتحقيق سريع وفعال ومجدّ بخصوص جرائم الحرب في قطاع غزة، وفي الوقت الذي تأخر فيه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق فعال، وفي الوقت الذي أحالت فقط خمس دول (من أصل 124 دولةً طرفًا في نظام روما الأساسي)، طلب فتح تحقيق من مكتب الادعاء، وفي الوقت الذي لم يطلب فيه مجلس الأمن فتح تحقيق، فإن الجريمة تواصلت بشكل دراماتيكيٍ دامٍ، حيث تم قتل عشرات آلاف الفلسطينيين على يد آلة الحرب الإسرائيلية.
إن هذه المعطيات تدفعنا للقول؛ إن خيار المحكمة الجنائية الدولية هو خيار ضعيف، وذلك يعود لعدة أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لا يتسع المقال لشرحها.
خامسًا: مسار محكمة العدل الدولية
في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2023، قدمت جنوب أفريقيا طلبًا لمحكمة العدل الدولية لإقامة دعوى ضد إسرائيل فيما يتعلق بانتهاكات إسرائيل التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة.
طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة "الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين في غزة من أي ضرر جسيم إضافي، وغير قابل للإصلاح" بموجب الاتفاقية، ولضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنعها والمعاقبة عليها.
وفي 26 يناير/ كانون الثاني 2024، أصدرت المحكمة أمرها بناء على طلب جنوب أفريقيا. ومن خلال المعطيات التي توفرت حتى هذه اللحظة، فإن المحكمة لم تكن حاسمة وواضحة بخصوص إصدار أوامر لإسرائيل بوقف إطلاق النار، وهذا ما جعل إسرائيل تتفاعل (بطريقتها الخاصة) مع التدابير الاحترازية.
بمعنى آخر؛ وعلى الرغم من أهمية قرار المحكمة العدل الدولية، إلا أن الأمر في نهاية المطاف، وكأي محكمة وطنية تحتاج لجهاز تنفيذي كي ينفذ الأحكام، سوف يعود لمجلس الأمن الذي تستطيع الولايات المتحدة أن تعطل دوره باستخدام حق النقض (الفيتو).
سادسًا: مسار الضغط الإعلامي والحقوقي على شركات أجنبية تدعم الاحتلال
يؤدي العامل الاقتصادي دورًا مهمًا جدًا في حياة الاحتلال الإسرائيلي. وثمة علاقات تجارية واسعة بين الاحتلال الإسرائيلي، وشركات عالمية. إن القانون الدولي الإنساني لا يجيز دعم إجراءات الاحتلال القمعية ولا الجرائم بحق السكان المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، بأي حال من الأحوال، ولا يجيز إجراء أي تغيير في الأرض، ولا في القوانين المحلية.
إن العديد من الشركات العالمية تدعم الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية، لا بل تدعم عمليات بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. وقد شددت الأمم المتحدة مرارًا على أن أي إجراءات تقوم بها إسرائيل، كقوة الاحتلال، لفرض قوانينها وتشريعاتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تُعَدّ غير قانونية.
إن التحرك القانوني والإعلامي وحملات المقاطعة باتجاه الشركات الداعمة للاحتلال مسألة مهمة جدًا، ويمكن أن تحقق نتائج سريعة.
لقد تعلّمت شركة "ألستوم" هذا الدرس، حيث خسرت العملاقة الفرنسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 عقدًا سعوديًا بقيمة 9.4 مليارات دولار على خلفية تورطها المباشر في مشروع القطار الخفيف الإسرائيلي الذي يربط القدس المحتلة بالمستعمرات الإسرائيلية غير الشرعية المقامة على أراضٍ فلسطينية. والأمر يمكن أن يطبَّق أيضًا على الشركات الداعمة للجيش الإسرائيلي ولمصلحة السجون وغيرها، مثل شركة "كاتربلر"، وشركة "فولفو"، وغيرهما.
بيدَ أن هذا الضغط الإعلامي والقانوني تجاه الشركات الداعمة للاحتلال يمكن ألا يحقق نتائج مرجوّة إن كان الضغط الرسمي العربي والفلسطيني ضعيفًا، وإن لم يكن معدومًا، وإذا كانت الجهات الرسمية العربية غير مدركة أهمية مقاطعة الشركات التي تدعم الاحتلال.
إن تكامل الجهود السياسية والقانونية والاقتصادية، مع توافر الإرادة السياسية، يمكن أن يحقق إنجازات كبيرة جدًا، ويمكن أن يجعل هذه المسارات ذات فاعلية، ويمكن عندها أن يعوّض عن ضعف المؤسسات الدولية، ولا سيما مجلس الأمن، والجمعية العامة، ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية.
رغم كل التحديات التي تقف في وجه العدالة الدولية، فإن الأمل يجب أن يحدو العاملين في هذا المجال، متسلّحين بثلاثة عناصر: الإيمان بالعمل الحقوقي والقانوني، ثم التخصص الدقيق، ثم النفَس الطويل.
ويجب ألا يفلت المجرمون من المساءلة والعقاب مهما طال الزمن؛ هذا التزام أخلاقي تجاه الضحايا الأبرياء في الأراضي الفلسطينية المحتلة.