فلسطين أون لاين

"مذبحة النابلسي"

...
جوع3.jpg
أدهم الشريف

لسنوات طويلة رافقت أفراد العائلة أو بعض الأصدقاء لتناول الحلوى لدى النابلسي، أحد أشهر محلات الحلويات في الجنوب الغربي من مدينة غزة.

لكن المكان نفسه تحول إلى عنوان للمأساة والموت.

فما هي الحكاية؟!

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف ليل الخميس 29 فبراير/ شباط 2024، عندما قررت الانطلاق من بيتي الكائن وسط مدينة غزة متجهًا إلى ما يعرف بدوار النابلسي.

وكان الليل موحش للغاية، كيف لا؟ وأصوات المقاتلات الحربية وطائرات الاستطلاع التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي لا تفارق سماء المدينة المنكوبة بفعل الحرب الممتدة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

وعندما سرت بخطوات سريعة تحت جنح الظلام، لم يراودني الخوف بقدر ما كنت متحمسًا لوصول قوافل المساعدات الإنسانية التي يتحكم جيش الاحتلال بدخولها من عدمه عبر شارع الرشيد، غربًا.

فجأة سمعت خطوات شاب يسير من خلفي مسرعًا حتى أدركني، سألته إلى أين؟ ردَّ "بدي أجيب طحين"؛ فكان لي رفيقًا في هذه المهمة الصعبة.

كان في العشرينات من عمره.. تعرفت عليه واكتشفت أنه يسكن في نفس المنطقة التي أقطن فيها، ولقد أصبح همه الأول والأخير توفير رغيف الخبز لأفراد عائلته التي باتت محرومة منه منذ أشهر.

بالمناسبة، أنا والشاب لسنا وحدنا من يبحث عن الدقيق المفقود، إذ أصبح وبسبب سياسات جيش الاحتلال أكثر من نصف مليون مواطن محاصرين في محافظتي غزة والشمال المفصولتين عن محافظات القطاع الساحلي.

ومع ذلك أصبح جيش الاحتلال يتحكم بكل ما يمكن إدخاله إلى شمالي القطاع ويحول دون وصول الدقيق والأغذية، محاولاً بذلك دفع مئات آلاف الغزِّيين للنزوح إلى ما يسميها المناطق الآمنة في محافظات الوسطى وخان يونس ورفح، جنوبًا.

وفعليًا سببت سياسات الاحتلال مجاعة دفعت آلاف المواطنين؛ الرجال منهم والنساء كبارًا وصغارًا إلى المخاطرة بحياتهم وانتظار قوافل المساعدات على بعد أمتار من الدبابات والآليات المدرعة الإسرائيلية المتمركزة جنوب مفترق النابلسي.

وقد تشجع المواطنون أكثر على الذهاب هناك مع الإعلان عن نية الاحتلال السماح بإدخال عدد محدود من شاحنات المساعدات الإغاثية، وتشمل الدقيق والمعلبات.

لكن ليلة الـ 29 من فبراير، لم تكن عادية على الإطلاق.

بعد ساعة من السير وعندما وصلت إلى مفترق النابلسي أدركت حجم الجوع الذي ينخر بطون المواطنين في شمالي القطاع، بعد أشهر من الحصار المطبق ونفاذ الدقيق والأطعمة الغذائية.

أما عن شهرة هذا المفترق، فهي تعود إلى أسير محرر من الضفة الغربية المحتلة، نال حريته من سجون الاحتلال في صفقة تبادل "وفاء الأحرار"، وأطلق عليه اسم النابلسي نسبة إلى مدينة نابلس الشهيرة جدًا بصناعة حلوى النابلسية الفلسطينية.

هناك تجمع المواطنون في حلقات صغيرة ملأت جانبي شارع الرشيد الذي تغيرت معالمه تمامًا بفعل الاجتياح البري الذي بدأه جيش الاحتلال يوم 27 أكتوبر، بعد 20 يومًا من الضربات والغارات الجوية المكثفة.

وكان الشبان قد أشعلوا النيران وجلسوا بالقرب منها للتدفئة وهم في مواجهة البحر مباشرة والبرد القارس، رغم الدخان المتصاعد من ألسنتها الملتهبة والذي حجب الرؤية وجعل السير عبر الطريق مسألة صعبة.

أمام كل هذا لم أتراجع وجلست خلف تلة رميلة صنعتها جرافة إسرائيلية كانت قد توغلت في المكان سابقًا وألحقت دمارًا كبيرًا بالمنشآت السكنية والبنية التحتية.

كان لزامًا عليَّا ألا أقف في العراء هكذا، وأن أحتمي خلف الساتر، وإلا قد يصيبني الرصاص الذي قد ينطلق من آليات جيش الاحتلال وطائراته المسيرة "كواد كابتر" في أي لحظة.

وقد جلست أكثر من ساعة أنتظر قوافل المساعدات واكتفيت بالنظر من خلف الساتر على الشاحنات التي يحول بيننا وبينها حاجز عسكري إسرائيلي محصن على بعد مئات الأمتار من النابلسي.

وقد تحمس الجميع لإدخال الشاحنات، لكن أمنيتهم بنيل رغيف الخبز لن تتحقق إلا بعدما تنفذ آليات الاحتلال وترسانته العسكرية المنتشرة في المكان مناورة "تمشيط" للمكان، يتخللها تقدم آليات عسكرية وإطلاق قذائف ورصاص كثيف قبل السماح للشاحنات بالعبور.

وعلى حين غرَّة، أطلقت دبابات جيش الاحتلال قذيفتين أصابت مباشرة الواجهة المقابلة من الساتر الترابي الذي احتميت خلفه، وأتبعت ذلك بصليات من الرصاص الكثيف.

عندما هيمن عليَّا الخوف وجعلني في حيرة من أمري وأنا أشاهد أفواج الشبان يركضون بسرعة جنونية محاولين حماية أنفسهم من الرصاص المنهر فوق رؤوسهم.

لم أنتظر طويلاً بعدما أصبحت دقات قلبي تدوي بعنف مسموع كطبول الإعدام، وركضت دون أن أعرف إلى أين؟ لكن الأهم بالنسبة لي كان العثور وبسرعة على مكان آخر.. وبينما كنت أركض بسرعة جنونية التوت قدمي وسقطت أرضًا قبل أن يشدني أحدهم إلى خلف شاحنة كبيرة بيضاء اللون اختبأت وبضعة شبان خلفها.

في تلك اللحظة بدأت شاحنات المساعدات بالدخول وقد تواصل إطلاق الرصاص بكثافة من الطائرات المسيرة ودبابات الاحتلال، وكان خطر الموت لا زال يداهمني.. وعندها قررت ألا أتحرك من خلف الشاحنة التي احتميت خلفها حتى لا يصيبني الرصاص.

لكن أحد الشبان وعندما اشتد إطلاق الرصاص مرة أخرى ركض نحونا محاولاً الاحتماء، وما إن اقترب مني حيث لم يعد يفصل بيني وبينه سوى بضعة سنتميترات صرخ بصوت عال وألم شديد "آآآه" قبل أن يضع يده على خاصرته اليسرى.

أدركت عندها أنه أصيب بالرصاص من الجهة التي كان قادمًا منها وكأنه جاء ليتلقى الرصاصة الإسرائيلية عني. سألته "كيف أنت؟ طمني عنك؟".. نظر إلىَّ بوجه عابس أظهر حجم الألم الذي أدركه ولم ينبث ببنت شفة قبل أن يركض ويختفي من أمامي.

بالتأكيد ذهب ذلك الشاب محاولاً البحث عمن يسعفه بينما واصل جيش الاحتلال إطلاق الرصاص.

في ذلك الوقت قررت مغادرة المكان.. وبينما كنت أتنقل بين السواتر والمركبات منحنيًا، كان آلاف الشبان قد تعلقوا بالشاحنات المحملة بالدقيق والمساعدات الغذائية؛ في مشهد لم أرى مثله من قبل أثبت فظاعة جريمة التجويع التي يرتكبها الاحتلال بحق أكثر من نصف مليون إنسان.

وعندما ابتعدت عن منطقة إطلاق النيران، سرت بخطوات هادئة وما زالت حشود المواطنين تتوافد إلى شاحنات المساعدات، وفجأة ظهر شاب من خلفي يسألني أين الطريق إلى مستشفى الشفاء؟ سألته لماذا؟ فأخبرني أن رصاصة إسرائيلية أصابته في خاصرته، وقد وضع يده عليها وواصل سيره.

عندها كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة فجرًا، ولم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى تكشفت خيوط الجريمة الإسرائيلية، وقد راح ضحيتها أكثر من 115 شهيدًا جلهم من المواطنين الغزِّيين الأبرياء الباحثين عن رغيف الخبز، وإصابة ما يزيد عن 670 آخرين بإصابات مختلفة بحسب وزارة الصحة.

حقًا كانت ليلة دامية بأتم ما تحمله الكلمة من معنى، أثبتت حجم المأساة التي يعيشها أكثر من نصف مليون إنسان في الشهر السادس للحرب الدامية، مأساة جعلتني أقرر ألا أعيد هذه التجربة الدموية من أجل رغيف الخبز رغم حاجة أسرتي إليه.

وصلت بيتي منهكًا بالكاد قادر على الوقوف.. فقال لي ابني "حمدا لله على سلامتك يا بابا.. المهم وين كيس الطحين؟".. ابتسمت واكتفيت بالصمت فرتبت زوجتي على كتفي وقد بدت فرحة لعودتي وهي تقول: "لا تقلق ان الله لن ينسانا".