مرت عدة دقائق وهي عالقة تحت الردم لا ترى إلا سوادا حالكًا تسمع صرخات طفلتها زينب (4 سنوات) يصاحبه بكاء وخوف: "يما بنخنق. الحقيني!"، يغزو جسدها ألمٌ عميق لا تستطيع إسكاته، أو تحريك أي جزء من جسدها سوى رقبتها لا تملك باليد حيلة أمام استغاثة طفلتها. كان الألم الصادر من بطنها كما لم تتألم من قبل حينما ضمت ركبتيها ناحية بطنها ويديها لحماية جنينها لحظة سقوط بيتها الساعة الثامنة وثمانية عشرة دقيقة مساء 12 يناير، كانون ثاني 2024 الذي دونته كيومٍ أسود في ذاكرتها بفعل قصف طائرات الاحتلال له على رؤوس ساكنيه بمحافظة رفح.
كان المشهد الدموي السابق، نهاية مأساوية لعائلة أبو لشين التي نزحت من منطقة الزوايدة وسط قطاع غزة باتجاه منزل أقاربهم بمحافظة رفح قبل القصف بتسعة أيام، واستشهد خلال المجزرة 15 فردا، ونجت دعاء يونس وهي حامل بالشهر التاسع مع طفلتها هديل (3 سنوات) مصابة بكسر بالحوض ونجى جنينها وخرج من رحم أمها مصابة بالاختناق والتهاب، وكذلك نجت سلفتها وابنة عمها.
قبل القصف تجمعت العائلة على مائدة العشاء، جلس أحمد أبو لشين (زوج دعاء) مع زوجته وطفلتيه زينب وهديل، وأشقائه الثلاثة وأولادهم وأمه، تأخروا في تحضير المائدة حتى يعود آخر فرد فيهم فكانت لمتهم الأخيرة التي بقيت تفاصيلها المؤلمة تجثم على قلب المصابة دعاء وذاكرتها وهي ترقد على أحد أسرّة مستشفى أبو يوسف النجار بمحافظة رفح، تروي لصحيفة "فلسطين" قصة دامية عاشتها في لحظة استقبلت فيها مولودتها الرضيعة التي نجت برحم أمها، وودعت زوجها وطفلتها.
زينب ولدت مرتين
أدخلت دعاء غرفة الولادة بمستشفى الولادة برفح لإجراء عملية ولادة قيصرية لإنقاذ حياتها قبل إسعاف كسورها وجروحها، "بدنا نلحق الأم قبل ما تستشهد. طيب يا دكتورالجنين ممكن يكون عايش؟ لا؛ صعب!" بملامح مكسورة وقفت شقيقتها أسماء أمام غرفة الولادة بعد حوارها السابق مع الطبيب تخطط هي وأفراد عائلتها لدفن الجنين، لكن صوت صرخة الحياة التي تسللت من غرفة الولادة، انتزعت من ملامحها ابتسامة فرح فرحين "بهذا العوض الجميل" الذي وصفه الطبيب بـ "المعجزة".
احتضنت دعاء طفلتها الوليدة بملامح فرح، سرعان ما تلاشت عندما أحضروا لها طفلتها الشهيدة زينب لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة، وبين نظرتي وداع واستقبال لوليدتها غرقت في دموعها لتعيش الفرح بمشاعر حزينة، فحملت الرضيعة اسم شقيقتها الشهيدة وتولد زينب من جديد.
على أحد أسرّة مستشفى النجار لا زالت دعاء تنتظر تحويلتها العلاجية للسفر للخارج برفقة رضيعتها زينب التي حرمت الرضاعة الطبيعية لظروف إصابة والدتها التي تعاني كسرا في الحوض وتحتاج لزراعة مثبت عظام بلالتين فيه.
بقلب محترق مثقل بوجع الفقد وصوت أنهكه الحزن، تنتشل بقايا تفاصيل العشاء الأخير العالق في ركام ذاكرتها "تناول الجميع طعام العشاء، ففرش الشباب الفراش في صالون البيت، بينما نحن النساء دخلنا للغرفة. تغطيت بالملاءة وكانت زينب على يميني وهديل على يساري، ثم نهضت زينب وبدأت تلاعبني وتفرد ذراعيها لي: "يلا أعطيني حضن"، فحاولت اسكاتها ووعدتها أن تحصل على نزهة خارجية مع والدها غدا إن حافظت على الهدوء".
تسبق الدموع صوتها "نامت طفلتاي. نظرت إلى الهاتف وكانت الساعة تشير إلى الثامنة وثمانية عشرة دقيقة، في لحظة شعرت بسقوط البيت وتهاوي جدرانه، كانت زينب تبكي للحظات وتطلب أن أساعدها، ثم اختفى الصوت. حاولت انتشال جسدي فلم استطع إلا تحريك رقبتي لأن حجم الردم كان كبيرا".
تعلق على نجاة جنينها "عندما حدث القصف ضممت قدمي لبطني لأحمي الطفلة، فنجوت وأدخلت للعمليات القيصرية، وكان وضع الجنين هالكا، وفي آخر نفس وضعوه على الأوكسجين في آخر الأنفاس وكانت مصابة بالاختناق والالتهابات بفعل البارود. ذهبت طفلة وربنا رزقنا بأخرى أسميتها زينب لتحمل الاسم نفسه، فأحضروا لي طفلتي الرضيعة واحتضنتها وأحضروا زينب الشهيدة وألقيت عليها نظرة الوداع".
هديل تنتظر والدها
يعمل زوجها موظفا في بلدية الزوايدة، وفي آخر ساعات كان يلعب مع طفلته هديل ويدور بها محاولا خلق فسحة فرح لطفلته. نجت هديل بصدمة فقد والدها إضافة لحروق بقدميها، تروي خالتها زهراء آثارها النفسية على الطفلة "كل يوم نراها تفتح نافذة البيت وتنادي على والدها، أوتستيقظ في ساعات الليل تتأمل في سقف الغرفة، عندما تسمع صوت الرعد تهرب إلينا، تشعر أن هناك شيئا كبيرا فقدته".
عاشت زهراء وأمها لحظات صعبة حينما ابلغوا بقصف المنزل الذي نزحت فيه شقيقتها، وعندما وصلوا مستشفى "النجار" أطلقوا العنان لأنفاسهم التي بقيت حبيسة قلوبهم حينما لم يجدوا اسمها بين الشهداء، "وصلنا لمرحلة أن نحمد الله لأنها خرجت مصابة، لأن لدي أخت استشهدت بقصف منزلها بالنصيرات برفقة زوجها وأبنائها الأربعة وخشينا أن نتجرع الفقد مرة ثانية".
في كل زيارة لطفلتها هديل تنظر يمينا ويسارا بحثا عن والدها، وكلما غلبها اليأس بإمكانية العثور عليه تفتح نافذة غرفة المشفى المجاورة لسرير والدتها تبكي، بنفس الدموع التي تحشرج بها صوت أمها هنا "كل ما يذكر اسم والدها تدخل في موجة بكاء تبحث عنه لا تستوعب ما هي الجنة التي حدثتها أنه رحل إليها مع جدتها وأعمامها وأبناء أعمامها".
خطط زوجها وأخوته أن يعودوا لمنزلهم في منطقة "الزوايدة" وأن يعيشوا بجوار بعضهم حتى ولو في غرفة واحدة في حال كان البيت مدمرا بفعل القصف الإسرائيلي، فتحققت أمنيتهم وإن اختلف شكلها وتراصت جثامينهم الممزقة وأشلائهم داخل قبر واحد احتضن العائلة.