فلسطين أون لاين

غزة... الطوفان والمحرقة

ضربة استباقية

الضربة الاستباقية التي كانت تتجهز لها دولة الاحتلال سبقتها حماس بطوفانها الذي فاق توقعها وأربك سلوكها وهز صورتها بسرعة تهاوي جيشها ودولته و ردة فعلها الهستيرية خير شاهد.

الحكومة اليمينية للاحتلال رهنت سلوكها مع غزة باعتبارها امتداد ارث أوسلو كمشروع انتظار مرتهن بحالة تنسيق غير مباشر وعجلة اقتصادية رخيصة وحصار تحكمه شروط نتنياهو بعد ان سقط مشروع انهيار غزة عبر جولات عدوان كبرى ضمن نهج "جز العشب" لإضعاف حماس عبر إدارة الصراع وليس حسمه كما هو الحال في الضفة والقدس. وضمن هذه السياسة نفذ الاحتلال تسع عمليات تصعيد عسكرية لم تسع ضمن هذه الاستراتيجية للحسم بعد اعتمادها القسام "جيشاً هجيناً" باعتبارها أكثر من منظمة وأقل من دولة وفق وثيقة "ايزنكوت" والتعامل معها يعتمد عقيدة عسكرية تشمل المراحل الأربعة من الإنذار الى الردع الى الاندفاع والحسم. وهذا ما أكدته دراسة معهد "بروكينغز" بدراسة 25 حالة تصعيد مع غزة حظيت بخطة تراتبية وتكرار منذ 2005 الى الان من الدخول الى غزة الي التصعيد وتدخل الوسطاء وخطط الاعمار والتدخل الدولي.

طوّر الاحتلال استراتيجيته نحو "الردع الإستباقي" عبر عمليات متكاملة عسكرية واقتصادية ومارس ذلك مراراً بعد معركة سيف القدس في محاولة محاصرة نتائجها وتحجيم ما يعرف بوحدة الجبهات وحاولت تثبيت ذلك استراتيجياً في المرحلة الأولى مع الجهاد الإسلامي عن طريق تعظيمها وتطويرها وصولاً الى حماس على أساس تثبيت معادلة الضبط والتحكم بهدف كي الوعي وقضم القدرات والتأخير والعرقلة وكسب الوقت عبر ضربات استباقية تحقق الاستنزاف بشكل دائم وتعزز الردع التراكمي. وهذه الاستراتيجية تأخرت مع حماس من خلال قراءة مطولة أن حماس بعد كل جولة يزداد التأييد الشعبي لها ويتعاظم دورها في قيادة المشروع الوطني فكانت بحاجة إلى أن تتطور الاستراتيجية معها من "جز العشب" الى "ردع استباقي" فتنشغل بذلك غزة في ذاتها بعد أن كانت قلبت الطاولة وكسرت النمطية في سيف القدس بمبادرة في اشعال الصراع بهدف وطني جامع بل ومقدس وهو القدس ومعركتها مما ساهم في شطب سريع لاستراتيجية الاحتلال في تعزيز الانقسام والفصل الجغرافي والنفسي بل وتم بناء صورة جديدة لما عرف بوحدة الجبهات مع تعزيز للحاضنة الشعبية لصالح برنامج المقاومة واسقاط نظرية غزة المردوعة.

تقدير دولة الاحتلال في ظل البيئة الاستراتيجية التي نشأت في سيف القدس أن الحاجة ملحة الى ضربة استباقية كبيرة ضد غزة وتحديداً حماس تضعف الحاضنة الشعبية المتعاظمة وتحقق تآكل للقدرات البشرية والمادية وتمنح فترة هدوء طويلة وتعيد الاعتبار للردع التراكمي وتسقط وحدة الجبهات وتحيد غزة عن أي مواجهة إقليمية محتملة تستهدف إيران. وتحييد غزة عن دورها في اشعال الفتيل والمقاومة واشغالها في ذاتها عمراناً وإدارة للحصار هدف أيضا وحتى تتفرغ الحكومة الفاشية للمخطط الكبير في ضم الضفة وتهويد القدس والاستيطان والأسرى. والضربة الاستباقية المخطط لها منذ سنوات في غزة أكدها غانتس في 2021 حين صرح أنه في المعركة القادمة سنعتمد على المفاجأة والحيلة.

الجاهزية بحرب موسعة بمشاركة إيران محل سؤال؟ ورغم انزلاق غزة بشكل عاطفي متسارع نحو لعبة المحاور حتى قبل أن تطمئن الى حقيقة ما يمكن تسميته "محور" وربما هو ليس أكثر من فعل تضامني لم يرق الى محور، أو أنه ممكن أن يقف في ظل مواجهة مفتوحة كمحرقة غزة الحالية. وفاقم حجم تضحيات غزة في المحرقة أن قدرات المقاومة لم تتطور نوعياً بحيث تشكل تحولا في موازين القوى مع الاحتلال خاصة أنها لا تملك العمق الجغرافي الذي يملكه حزب الله في لبنان وسوريا.

ضربة استباقية لغزة كان يسكن هوس الحكومة الفاشية للتفرغ لحسم الصراع في القدس والضفة، والرهبة من معركة متعددة الجبهات باعتبار ذلك تهديدا وجوديا لدولة الكيان، وما يصاحب ذلك من عوامل ساهمت في تجذر هذا المشروع في برنامج الحكومة الفاشية من حيث بيئة دولية تتغير في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، ومساحة نفوذ إيران المتزايد في سوريا، وفشل أمريكي في الملف النووي الإيراني، وتطور العلاقات الإيرانية الصينية، وعدم وجود اختراق في مشروع التطبيع مع السعودية. وبالتأكيد كان أخطرها لدى الاحتلال حرب متعددة الجبهات الذي كان يحتاج تدخل سريع من حلفاء الاحتلال مع دعم مفتوح، وهذا مشهد التداعي الذي شاهده العالم إثر طوفان غزة الذي وصل الى درجة مشاركة امريكية المباشرة في العدوان على عزة، فضلا عن جهدها الكبير في منع التصعيد الى حرب اقليمية مما دفعها الى توفير اساطيلها في المياه الدافئة في المتوسط وحوله بل وأن تشكل حلف بحري تحمي الكيان الوظيفي من موقف اليمن القيمي.

هذه البيئة التي دشنت يوم العبور في 7 أكتوبر 2023 والذي يمثل تاريخاً فارقاً مسيرة الصراع ليس فقط مع الاحتلال وإنما أيضا مع المشهد الدولي الذي اعاد اكتشاف نفسه فساطين. ولعل الضربة الاستباقية التي كانت تتجهز لها دولة الاحتلال سبقتها حماس بزلزالها الذي بتقديري فاق توقعها وأربك صورتها بسرعة تهاوي جيشها ودولته او ردة فعلها الهستيرية والمنظومة الدولية التي تدعمها وعلى رأسها أمريكا كل ذلك ساهم في المحرقة النازية السادية التي تتعرض لها غزة او من حيث درجة موثوقية ما كانت تعتبره محور ليكون جاهزاً وصفاً متراصاً وفق دلالة المصطلح.

لقد عززت حماس في طوفان الاقصى نمطها الجديد في سيف القدس على نطاق أوسع بأنها تخوض معركة تحرير حقيقية وأنها تولت بإسناد شعبي وثقة كبيرة قيادة هذا المشروع وأنها لم تسلم بمرحلة التدجين الأوسلوي بل وأنها قادرة ان تكون لاعباً عالمياً أو اقليميا قادر على بعثرة الأوراق وإعادة رسم الصورة وصياغة المشهد في إطار من العمل اللامتوقع والسلوك الحاسم فكرياً وسياسياً وميدانياً.