تشكّل رفح، المدينة الأخيرة المستهدفة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والأكثر كثافة سكانيًا في قطاع غزة بعد نزوح نحو 1.4 مليون فلسطيني إليها من شمال ووسط قطاع غزة.
ولكنها في نفس الوقت تمثل الاختبار الأخير لمدى نجاح أو فشل العدوان في ظل إصرار نتنياهو على تواصله، وسط خلافات تعصف بالائتلاف الحاكم، وفي غمرة انقلاب في التأييد الغربي للحرب على غزة التي تسببت باستشهاد نحو 29 ألف فلسطيني، وجرح نحو 69 ألفًا معظمهم من الأطفال والنساء!
وحاول نتنياهو استمالة الإسرائيليين لسياسته بالإعلان عن شعار ومطلب جديد، وهو أن إسرائيل "سوف تحارب حتى تحقيق "الانتصار الحاسم"، وسط تأكيده أن القوة العسكرية هي التي تمهد الطريق لإطلاق الأسرى وليس غيرها، متماهيًا بذلك مع رغبة الشارع المتعطش للانتقام منذ أحداث طوفان الأقصى.
الهروب للأمام
يأتي الموقف الإسرائيلي مع استمرار فشل جيش الاحتلال في القضاء على حماس، وفشله كذلك في تحرير الأسرى بالقوة، إلا من أسيرَين قال؛ إنه نجح بتحريرهما في رفح، وسط مؤشرات أنهما لم يكونا بحوزة المقاومة، وإنما بحوزة إحدى العائلات!
ولذلك، فإن هذا الإصرار لا يأتي من خلفية نجاح باهر في الميدان، كما أن حرص نتنياهو وأركان حربه على التأكيد أنهم نجحوا في القضاء على جزء مهم من الكتائب المقاتلة لحماس، يكذبه الفيديوهات التي تبثها المقاومة عن الكمائن والقنص والتفجير بقوات الاحتلال فيهما، فضلًا عن المعارك الشرسة التي لا تزال تقع في خان يونس جنوبًا.
كما اعترف الاحتلال بأنه يذهب لرفح للقضاء على 4 كتائب لحماس لم تشارك في المعركة، ولم تمس قدراتها حتى الآن.
وقد أكد رئيسا وزراء سابقان وهما إيهود باراك وإيهود أولمرت في تصريحات سابقة استحالةَ تحقيق النصر في المرحلة الحالية، ودعَوَا إلى إنجاز صفقة تبادل تتيح للكيان مستقبلًا استئناف الحرب على حماس، كما أكد عدد من قادة أجهزة الأمن والمفكرين والكتّاب على فشل الاحتلال في تحقيق مهمة القضاء على حماس، وضرورة الانتقال لصفقة تبادل الأسرى، دون أن يلقى ذلك استجابة من نتنياهو، الذي أصرّ على الاستمرار في الحرب حتى لو أدّى ذلك للتضحية بالأسرى.
وفي شهادات حديثة على فشل الاحتلال بمهمته، أكد اللواء احتياط يتسحاق بريك للقناة 12 بالتلفزيون العبري أنه "لا يمكن الانتصار في الحرب، يتحتّم علينا أنْ نواجه الحقيقة، وأن نقولها، ونكفّ عن قصص نحن ونحن ونحن (..) برأيي، من الصعب جدًا اليوم تقويض حماس، والأسهل هو استعادة المخطوفين".
أما رئيس جهاز الموساد سابقًا تامير باردو، فقد نقلت عنه قناة كان 11 الإسرائيليّة الرسميّة "أنّه لم يعد هناك خيار أمام إسرائيل إلّا القبول بعقد صفقةٍ لتبادل الأسرى يُحدِد السنوار شروطها وموعد الإفراج عن الأسرى، مضيفًا "إذا أنهينا الحرب بـ 136 رون آراد (في إشارةٍ إلى اسم مساعد طيار مفقود منذ 36 عامًا في لبنان) أو بـ 136 تابوتًا، فإنّ إسرائيل، للمرّة الأولى منذ إقامتها، ستخسر الحرب".
كما نقلت CNN عن رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي أن إسرائيل حققت نجاحًا ضئيلًا في تطهير وتأمين أنفاق غزة التي يبلغ طولها أكثر من 500 كم.
ورغم أن الحكومة بمن فيها معارضو نتنياهو من حزب المعسكر (غانتس وإيزنكوت) تتفق على ضرورة استمرار الحرب، فإن ألاعيب نتنياهو، ومحاولته تغييب هذين الأخيرين عن التعامل مع ردود حماس على اتفاقية الإطار التي تم التوصل إليها في باريس جعلتهما يهددان بالانسحاب من الحكومة لشعورهما بأن نتنياهو يريد الاستفراد بالتعامل مع القضية باتجاه إفشال الاتفاق، لكي يستمر في الحرب مع إلقاء اللوم على حماس والقول إن شروطها تعجيزية ولا يمكن التعامل معها.
وأن الاستجابة لهذه الشروط يعني هزيمة إسرائيل! الأمر الذي يؤكد أنه يريد استمرار الحرب حتى يستمر على رأس الحكومة ليجنب نفسه المحاكمة التي تنتظره بمجرد الخروج منها بتهم الفساد التي سيضاف لها تهم التقصير في توقع ومواجهة أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
وأدى هذا السلوك إلى تصاعد مظاهرات أهالي الأسرى في تل أبيب أمام وزارة الحرب وفي قيسارية أمام منزل نتنياهو، وانضمام رئيس اتحاد نقابات العمال (الهستدروت) للمطالبة بإبرام صفقة تبادل مع المقاومة، والتأكيد على أن إطالة أمد الحرب ستؤدي إلى مقتل من تبقى في الأسر لدى المقاومة.
خلافات، والعدوان مستمر
وبنفس هذا المنطق، يواصل نتنياهو التحشيد والإعداد لمهاجمة رفح، مؤكدًا أن عدم تنفيذ هذه العملية في رفح يعني "خسارة الحرب" ضد حماس، وأن العملية ستتم حتى لو تم التوصل إلى اتفاق بشأن الأسرى.
وقد طلب نتنياهو من رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي، إعادة تعبئة قوات الاحتياط التي تم تسريحها استعدادًا للعملية في رفح، فيما نقلت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية عن مسؤول إسرائيلي رفيع أن نتنياهو أبلغ المجلس الوزاري المصغر (الكابينت) ومجلس الحرب بأنه يجب إنهاء العملية العسكرية البرية في رفح مع حلول شهر رمضان، في العاشر من مارس/ آذار المقبل".
ووَفقًا للهيئة، فإن العملية البرية في رفح لن تبدأ إلا بعد استيفاء شرطين: الأول إخلاء واسع النطاق للفلسطينيين من رفح ومحيطها، والثاني؛ اتفاق بين إسرائيل ومصر بشأن نشاط الجيش الإسرائيلي ضد الأنفاق في محور فيلادلفيا.
وقد أعطت واشنطن الضوء الأخضر لهذه العملية، حيث أبلغ بايدن نتنياهو في الاتصال الهاتفي بينهما قبل أيام "بأن العملية العسكرية في رفح لا ينبغي أن تتم دون خُطة موثوقة وقابلة للتنفيذ! فيما أكدت قناة كان العبرية أن "البيت الأبيض أبلغ إسرائيل عن عدم ممانعة تنفيذ العملية البرية في رفح قبل رمضان وبسرعة، والامتناع عن تنفيذها خلال شهر رمضان تفاديًا لتصعيد إقليمي"!!
يأتي ذلك رغم سيل التسريبات عن غضب بايدن من نتنياهو إلى درجة وصفه بـ "الأحمق" و"الرجل السيئ"، الأمر الذي يؤكد أن واشنطن التي تدعم استمرار الحرب حتى تحقيق هدف القضاء على حماس، لا تمارس ضغطًا حقيقيًا على الكيان لوقف مجازره، وأنها تحاول ضبط عملياته بحيث لا تؤدي إلى ردود أفعال عالمية فقط، وأن الهدف من هذه التصريحات هو الاستهلاك الداخلي نتيجة لحسابات الرئيس الأميركي جو بايدن الداخلية.
ورغم أنّ هناك خلافات حقيقية بين الرجلين والإدارتين، تتعلق بحجم استهداف المدنيين، والتوصل لوقف النار مع حماس، وتصور ما بعد الحرب المتعلق بدور السلطة والدولة المستقلة، فإن بايدن يبدو عاجزًا أو غير راغب في الضغط على نتنياهو من خلال المساعدات أو الضغط الدبلوماسي، بل يواصل الضغط على الكونغرس للموافقة على مساعدات تزيد على 14 مليار دولار لإسرائيل.
وصدرت الأسبوع الماضي مذكّرة للأمن القومي تتطلب استخدام أي مساعدات عسكرية أميركيّة بما يتوافق مع القانون الإنساني الدولي، ولكنها لم تطبق على المساعدات العسكرية لإسرائيل حتى الآن.
ويواجه بايدن معارضة داخل حزبه، وفي الكونغرس، ويخسر من مؤيديه في صفوف العرب والمسلمين الذين يشكل دعمهم له عنصرًا أساسيًا في الولايات المتأرجحة، ومن المحتمل أن يخسر الانتخابات كثمن لدعمه اللامحدود للاحتلال!
وفي المقابل، يتجاهل نتنياهو مطالب بايدن، وربما يعتقد أنه قادر على التأثير على الرئيس الأميركي من خلال الأيباك، ويفضل الاستمرار في إحراجه وضرب فرص فوزه في الانتخابات الأميركية! وربما يعتقد أيضًا أن إسقاط بايدن وفوز ترامب، سيشكلان طوق نجاة له للاستمرار في الحكم وتجنب المحاكمة بالفساد والفشل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول!
وهو يحلم كذلك بالظهور في التاريخ الصهيوني كبطل ورافض للضغوط الأميركية على عكس غيره من الرؤساء، وأنه أعاد للكيان هيبته وأمنه.
ويلحظ هنا ردود الفعل العالمية التي شكلت بمجملها تحولًا في مواقف الدول الغربية أساسًا، والتي دعمت العدوان الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فإضافة إلى دعم حكومات بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا لوقف الحرب على النقيض من الموقف الأميركي، فقد أصدر قادة أستراليا، وكندا، ونيوزيلندا بيانًا مشتركًا حذّروا فيه من أن العملية في رفح ستكون "كارثية".
فيما أكد المستشار الألماني شولتز أن المساعدات الإنسانية يجب أن تدخل قطاع غزة، ويجب على الكيان الامتثال للقانون الدولي، كما أكدت وزيرة الدفاع الهولندية أن بلادها قلقة للغاية إزاء الوضع في غزة، معتبرة أن الناس هناك يحتاجون وقفًا فوريًا لإطلاق النار.
ورغم كل هذا الإصرار من نتنياهو، فإن العمليات في رفح تأتي لمحاولة تحسين موقفه التفاوضي، في ضوء مفاوضات تبادل الأسرى، ووقف النار بعد رد حماس على هذه الوثيقة ومطالباتها التي تتعلق بالإغاثة والمساعدات وإطلاق المعتقلين الفلسطينيين.
وعلى الأغلب سيضطر نتنياهو في النهاية للتفاوض على شروط الصفقة بعد أن يفشل في مهمته برفح مترافقًا باستمرار صمود المقاومة في الشمال والوسط، لا سيما أن طول أمد المعركة سيضاعف الضغوط الدولية عليه، بما فيها ضغوط محكمة العدل الدولية التي ستعقد جلسة أخرى للنظر في مدى تجاوب الاحتلال مع منع الإبادة الجماعية.
وفي محاولة لتجاوز الاعتراضات الدولية والأميركية على اجتياح رفح، ورفض جميع الأطراف بما في ذلك مصر لتهجير الفلسطينيين إلى العريش، فقد طُرحت عدة اقتراحات إسرائيلية، من بينها إجلاء سكان رفح إلى شاطئ المواصي، بحيث يتم إنشاء 15 مخيمًا على شاطئ البحر كل منها يضم 25 ألف خيمة!
ولكن ذلك بالطبع لن يمنع أن يؤدي العدوان إلى تشريد الفلسطينيين وتهجيرهم لمصر، خصوصًا أن الاحتلال أكد أنه لن يسمح بعودتهم إلى شمال غزة، وهذا يضع العدوان أمام مرحلة جديدة لن تكون أقل سوءًا من سابقاتها، كما سيضع الحكومة المصرية أمام موقف محرج، وهي التي سبق أن قالت إنها لن تسمح بتهجير الفلسطينيين، وإن كانت صدرت مؤشرات على إمكانية تعاملها مع احتلال إسرائيل معبر صلاح الدين (فيلادلفيا)، رغم مخالفته اتفاقيات السلام بين البلدين. وتم رصد قيام السلطات المصرية بتمهيد منطقة عازلة على الحدود مع رفح، حيث نفت مصر أن يكون ذلك لاستيعاب المهجّرين الفلسطينيين.
استمرار العدوان
ويبدو أن نتنياهو وحكومته لا يكتفون فقط بالسعي لاستسلام حماس أو هزيمتها، وإنما أيضًا لتهجير أهل غزة لو سنحت لهم الفرصة لذلك، فضلًا عن السعي لانسحاب حزب الله إلى شمال الليطاني، والسيطرة على الأغوار واستكمال الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.
وهذا السلوك قد يجر المنطقة كلها لصراع إقليمي تتجنبه واشنطن، ولكنها لا تمارس نفوذها للجم هذه الحكومة، ما قد يؤدي إلى إضعاف دورها في المنطقة، ويؤثر سلبًا على حلفائها.
أما فيما يتعلق بالموقف السياسي، ومستقبل الصراع، فمن الواضح أن معظم الإسرائيليين- باستثناء مؤيدي السلام ذوي الميول اليسارية والذين يكادون يختفون من المشهد السياسي الإسرائيلي- يتفقون على الموقف من الدولة الفلسطينية، واعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.
وليس أدل على ذلك من مصادقة الحكومة الإسرائيلية بالإجماع على إعلان نوايا، اتفق عليه نتنياهو وغانتس، جاء فيه أن "إسرائيل ترفض بشكل قاطع إملاءات دولية بشأن تسوية دائمة مع الفلسطينيين".
وشدد الإعلان على أنه يرفض الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية بشكل أحادي الجانب، واعتبر أن "تسوية من هذا النوع تحصّل فقط بمفاوضات مباشرة بين الأطراف، من دون شروط مسبقة، وأن اعترافًا دوليًا أحادي الجانب بدولة فلسطينية هو جائزة كبرى للإرهاب بعد مذبحة 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتمنع كل تسوية مستقبلية للسلام".
ولذلك، فمن المتوقع استمرار العدوان بوتائر مختلفة قد يتخللها صفقة أسرى محدودة أو هدنة كما تتحدث عنها واشنطن، وبصرف النظر عن موعد العدوان على رفح، فإنه لن يوفر للاحتلال حسمًا للمعركة، ومن المتوقع استمرار صمود المقاومة بما يفشل أهداف الاحتلال، بما سيؤدّي إلى زيادة الخلافات داخل الائتلاف الحكومي، وتصاعد الخلاف مع واشنطن، وزيادة التفاعلات السلبية ضد الكيان عالميًا.