مع دخول مفاوضات التهدئة وتبادل الأسرى مراحل أكثر جدية، خصوصاً بعد تدشين “إطار باريس” كأرضية للانطلاق منها للتوصل لاتفاق يتمّ بمقتضاه إتمام عملية تبادل للأسرى بين المقاومة والاحتلال، يتحرك الوسيطين القطري والمصري بفعالية كبيرة بمشاركة مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية عبر مدير المخابرات المركزية الأمريكية، مسنودين بضغط ومساهمات متعددة من دول عربية وإقليمية، للوصول لصفقة جدية وإيقاف جزئي أو كلي للقتال في قطاع غزة.
الحراك التفاوضي للوصول لصيغ اتفاق يقضي بالهدوء في قطاع غزة وتبادل الأسرى يصطدم علنياً بمواقف متصلبة من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وتمسك مبدأي من المقاومة بالخطوط الأساسية المرتبطة بوقف شامل للعدوان وانسحاب كامل لآليات الاحتلال من غزة، إلى جانب مسار تبادل واسع للأسرى، بالرغم من إبدائها مرونة كبيرة في ردها على “إطار باريس” اتسم بفعالية كبيرة وفتح مساحات واسعة للوسطاء من أجل الوصول لصيغ تتلاءم مع محددات تبناها المجتمع الدولي لطبيعة وشكل إنهاء العدوان على القطاع.
ضغوط سياسية وميدانية
ضغوط كبيرة ومتعددة يمارسها اللاعبون في المنطقة، إلا أنّ جلّ هذه الضغوط يركز في الضغط على المقاومة من أجل دفعها للقبول بصيغ جزئية لا تلبي الحد الأدنى المطلوب للوصول لصفقة واتفاق يحقّقان طموحات الشعب الفلسطيني، ويوازيان ولو جزءاً من حجم التضحيات المقدّمة، وأولاً وقبل كل شيء يوقفان العدوان على القطاع بشكل كلي.
هذه الضغوط تتوازى مع حراك مكوكي في المنطقة للمبعوثين الأمريكيين وتحرك بريطاني- فرنسي على جبهات مختلفة بهدف تهدئة جبهات الإسناد للمقاومة في قطاع غزة وبشكل خاص في لبنان والعراق واليمن، مستخدمة سياسات الترغيب والتهديد في لبنان تحديداً والاستهداف العدواني المباشر في العراق واليمن، لوضع حد لسياسات الإسناد وحشر المقاومة الفلسطينية في الزاوية وحيدة ودفعها لتقديم تنازلات كبيرة.
على الأرض وفي ساحة الحرب يستمر الاحتلال في ممارسة ضغطه الأقصى وبممارسة شتى أنواع الجرائم وأضخم عمليات التدمير التي لم تتوقف منذ ما يناهز الـ5 شهور، في ما استعرت التهديدات باجتياح رفح الملاذ الأخير لنازحي القطاع، البقعة التي احتشد فيها أكثر من مليون و300 ألف نازح، في سعي لوضع المقاومة أمام خيارات إما التنازل أو تدمير ما تبقى من القطاع واستكمال نكبة الشعب الفلسطيني.
تحوّلت العملية العسكرية على رفح إلى عنوان الساعة مع تزايد تهديدات الاحتلال، وتصاعد التحذيرات الإقليمية والدولية من مثل هذه الخطوة الكارثية. التحذيرات لم تقتصر على الأصوات المُعتادة من حكومات وهيئات دولية، بل توسعت لتشمل دولاً حليفة بل وشريكة للاحتلال في حربه على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بما فيها الولايات المتحدة التي حذّرت من عملية “غير مخطط لها” في رفح.
حديث الرئيس الأمريكي بايدن بخصوص وجود “رهائن” أمريكيين وأنّ مفاوضات الأسرى لا تقتصر على وجود “إسرائيليين” يضفي بعداً جديداً من الضغط للوصول لاتفاق تبادل للأسرى وتهدئة في قطاع غزة، إذ يضع هذا التصريح حكومة الاحتلال في موضع من الصعب فيه الاستفراد بقرار بدء عملية عسكرية في رفح والمخاطرة بمصير الرهائن بمعزل عن الموافقة والغطاء الأمريكيين.
الحرب الإقليمية وإسناد المقاومة
في مواجهة الضغوط الهائلة على المقاومة، وفي ذات الإطار الإسنادي، تحرك وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان في المنطقة، والتقى قادة فصائل المقاومة في بيروت، واجتمع مع إسماعيل هنية في ذات توقيت انعقاد اجتماع القاهرة لاستكمال “مسار باريس” في مفاوضات الأسرى.
في ذات السياق، هددت جماعة أنصار الله “الحوثيون” بتصعيد عملياتها في استهداف الاحتلال ومصالحه في حال الإقدام على اقتحام رفح وزيادة المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مؤكدين في محافل عدة أنّ ضرباتهم لن تتوقف حتى يتوقف العدوان على قطاع غزة.
أما في الجبهة المشتعلة شمال فلسطين، أرسلت المقاومة اللبنانية بالنيران قبل البيان والإعلان مواقف التصعيد الواضحة، إذ شكّلت الضربة الصاروخية الدقيقة لمقر قيادة فرقة الشمال في جيش الاحتلال بمدينة صفد المحتلة، وقصف مستوطنة “كريات شمونة” برشقات صواريخ فلق وإحداثها للدمار الشامل، التحدي الأوضح لمحاولة الاحتلال ردع حزب الله بتوسيع الاستهدافات في الجنوب اللبناني ودفعه باتجاه قبول الوساطات للتوصل لحل بمعزل عن إيقاف العدوان على القطاع.
السيد حسن نصر الله، الذي تعهد بوضوح مع أول أيام الحرب، أنّ المقاومة اللبنانية وقوى محور المقاومة في المنطقة، لن يسمحوا بأي حال من الأحوال بهزيمة المقاومة الفلسطينية، تحدّث بشكل واضح وصريح لا لبس فيه، أنّ رد المقاومة اللبنانية على المجازر في الجنوب واستهداف المدنيين سيكون بـ”الدماء” مذكّراً وزير حرب الاحتلال “غالانت” الذي هدد بضرب بيروت، أنّ صواريخ حزب الله تغطي من كريات شمونة إلى إيلات، وأنّ الحزب في جهوزية كاملة للحرب في حال قرر الاحتلال ذلك.
أرسلت قوى محور المقاومة رسائل واضحة، أعادت سيناريو “الحرب الإقليمية” إلى الواجهة بوضوح، وأدرجت عنوان “منع توسع الحرب” على أجندة اجتماعات الوسطاء ومقدّري السيناريوهات في أروقة المخابرات الدولية، لتكّون معادلة “دخول رفح يقابله توسّع الحرب ورفع وتيرة المواجهة في المنطقة”.
رمضان وإشارات الانفجار
السباق مع الزمن والحراك الكبير للوسطاء ودخول لاعبين جدد إقليميين ودوليين إلى حلبة المتفاعلين في ملف التهدئة وصفقة الأسرى في هذا التوقيت بالتحديد يعود لمجموعة من العوامل الدولية وضجيج العالم من مشاهد القتل والإبادة الجماعية، والضغط الذي شكّلته وقائع جلسات محكمة العدل الدولية بخصوص ارتكاب “إسرائيل” لجريمة الإبادة في قطاع غزة والاستنزاف الذي خلقته معادلات استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة، وقرب الانطلاق الرسمي لموسم الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وتأثيرات أزمة الملاحة في البحر الأحمر.
إلا أنّه وبالرغم من كل ما سبق، يحظى قرب حلول شهر رمضان بخصوصية كبيرة تدفع المتأثرين من الدول والكيانات من تبعيات حرب الإبادة في قطاع غزة، يحسبون حسابات كبيرة لدخول شهر رمضان وخصوصيته الكبيرة مع استمرار تدفق مشاهد القتل والدمار في قطاع غزة، إذ تخشى كل الأطراف من تبعيات احتمالات تحول قدسية هذا الشهر لدى جمهور المسلمين إلى شرارة لموجة تضامن كبيرة جداً قد تنعكس على الكثير من معادلات المنطقة.
الحزب الديمقراطي وفريق بايدن الرئاسي الذي يطمح لفترة رئاسية جديدة في الانتخابات الأمريكية، يقرأ جيداً نتائج استطلاعات الرأي التي تضع سيد البيت الأبيض في مصافي الرؤساء الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، ويعون تماماً أنّ غياب شريحتي طلاب الجامعات من أنصار الحزب، والناخبين العرب والمسلمين عن صندوق الانتخابات، يعني بشكل محسوم أنّ الفترة الرئاسية الثانية المطموح تحقيقها لن تتعدى كونها أضغاث أحلام، وأنّ لعنة دماء أطفال غزة ستلاحق بايدن في كل محفل انتخابي، وبالتالي فالحاجة إلى الهدوء في رمضان، وإعادة خطب ود هذا الجمهور تشكّل حاجة رئيسية لبايدن وفريقه.
السعودية من جانبها دخلت إلى حلبة الضاغطين من أجل الوصول لتهدئة في القطاع، وباتت تتحرك على مستويات عدة، بما فيها تقديم مبادرات والحديث عن عروض وصولاً لاستضافة اجتماعين لبحث ترتيبات “اليوم التالي” للحرب وإعادة تهيئة وتجديد السلطة الفلسطينية لتلعب دوراً محورياً في المشهد القادم للقطاع. التحرك السعودي والذي شمل حتى إعادة الحديث عن التطبيع مقابل “أفق سياسي حقيقي لحل الدولتين” وإيقاف العدوان على القطاع، يهدف بدرجة أساسية لضمان هدوء في شهر رمضان حتى لا تتحول شعائر هذا الشهر إلى تظاهرات شعبية وجماهيرية مساندة للشعب الفلسطيني قد تتطور لحراكات لا يمكن ضبطها أو السيطرة عليها من قِبل أنظمة المنطقة، إضافة لبحثها عن مساهمة وتأثير في مستقبل شكل الحكم الفلسطيني، ومحاولة تحضير وصفات تنسجم مع سياستها في المنطقة.
وتحسّباً لذات الشهر، تتحرك الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للتجهز للتعامل مع احتمالات تصاعد التوتر في الضفة المحتلة والقدس والأراضي المحتلة عام 1948، فبالرغم من كون الحراك المساند لغزة في هذه المناطق خلال أشهر الحرب لم يرتقِ لحجم الحدث وهول المآسي والجرائم بحقّ أهالي قطاع غزة، إلا أنّ شهر رمضان لطالما كان شهراً مغايراً في المعادلات الأمنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم يمر أي رمضان في السنوات الخمس الأخيرة دون أن يتحول إلى كتلة من اللهب المشتعلة التي تشمل في طياتها موجات من العمليات الفدائية والتحركات الشعبية وتصعيداً للمواجهة مع جيش الاحتلال، وبناءً عليه فإنّ استمرار تدفق مشاهد الدمار والقتل بل وتصعيدها بالعدوان على رفح، قد يشكّل شرارة من الصعب على “إسرائيل” احتوائها لو انطلقت في الضفة المحتلة والقدس.
كخلاصة، فإنّه وبالرغم من حجم الضغوط الهائلة الواقعة على عاتق مفاوضي المقاومة الفلسطينية، إلا أنّ أجندة المفاوضات والوسطاء واللاعبين الدوليين باتت مزدحمة بعوامل ضاغطة تدفعهم لتكثيف الضغط أيضاً على “نتنياهو” الذي يريد أن يستمر في حرب الإبادة بحقّ قطاع غزة لإعادة الحياة لمستقبله السياسي الذي أجهزت عليه رصاصات مقاومي غزة في السابع من أكتوبر، في ما يراهن “نتنياهو” على كسب المزيد من الوقت لانتزاع تنازلات جوهرية من المقاومة عبر المزيد من القتل والدمار.
يبحث الجميع عن هدوء في رمضان، وهو هدوء يشكّل أيضاً مصلحة إسرائيلية بقدر ما يشكّل مصلحة أيضاً لحلفاء “إسرائيل” ولاعبي الإقليم، في ما هو مطلب مستدام للمقاومة الفلسطينية التي أُنهكت حاضنتها الشعبية بفعل آلة القتل والدمار والتجويع، إلا أنّ معركة المفاوضات الآن لم تعد مرتبطة بالحصول على الهدوء، بل بماهية هذا الهدوء الذي يريده الاحتلال الإسرائيلي هدوءاً مؤقتاً يخفف من الضغط الداخلي والخارجي عليه، ويمرر فيه الشهر الحرج، وينجز خلاله حلاً ولو جزئياً لمعضلة الأسرى لدى المقاومة. في ما تريد المقاومة هدوءاً مستداماً يشكّل مدخلاً لإيقاف شامل لإطلاق النار وانسحاب جيش الاحتلال من أراضي قطاع غزة وإنجاز صفقة مشرّفة لتبادل الأسرى.
يشكّل توسع الحرب في الإقليم بركاناً لن يحرق فقط أطراف الاشتباك، بل سيأخذ المنطقة بأكملها إلى انفجار لا يمكن توقع أو تدارك مفاعليه، ويمكن أن تؤدي ارتداداته لهزة في النظام الدولي الذي بات متخلخلاً بفعل تغير موازين القوة العالمية وصعود قوى كبرى مثل روسيا والصين في مواجهة القطب الأمريكي، وبالتالي، فإنّ إشارات الانفجار الواسع في الإقليم، ستدفع الجميع باتجاه المسارعة لنزع الفتيل والضغط من أجل الوصول لصيغ هدوء، أو على الأقل تجاوز الموجة الحالية وتخفيض وتيرة التوتر في المنطقة.