فلسطين أون لاين

ما وراء الأرقام.. كيف نفهم استطلاعات الرأي الأميركيَّة حول العدوان على غزة

تسهم النّزاعات والحروب بصورة عامة في تنشيط استطلاعات الرأي، وفي الحرب الأخيرة على غزّة- كانت الحال كما هو متوقع وشأنها في ذلك شأن معظم الصراعات- انضمت استطلاعات الرأي العام الأميركيّة إلى الجدال الدائر حول العدوان الإسرائيلي على القطاع، وطرأت تحولات بارزة على الرأي العام الأميركي، مع محاولة استخدام هذه الأداة من قبل كل طرف لصالحه، وربما بشكل لم يسبق له مثيل!

تناولت الموضوع قبل سنوات في كتابي: " الصراع العربي – الإسرائيلي في استطلاعات الرأي الأميركية" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حيث تعرضت لأبرز قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي في استطلاعات الرأي العام الأميركية، وما شملته من مواضيع، كأهمية النزاع ومبادرات تسويته وآثاره وأبرز مراحله، وعمليات السلام ودور الأطراف الدولية لحل النزاع، واهتمام السياسة الخارجية الأميركية، والدعم الأميركي لإسرائيل، وصورة أطراف النزاع واتجاهات التعاطف نحو كل طرف وأبرز القضايا المطروحة فيه.

ثمة أساسيات لفهم الرأي العام الأميركي، وعند تناولها فإن الأمر أعمق من مجرد التركيز على نتيجة يستخدمها كل طرف لصالحه، أو دون مراعاة الخلفية ولا السياق العام ولا حتى صياغة الأسئلة وترتيبها وطريقة تفسيرها مما أفسح المجال- كما نرى مع كل نتيجة – لتنوع استخدامها بدرجات متفاوتة من الصحة أو الخطأ وفق مقولة: " استطلاع واحد وتفسيرات متعددة"!

كانت نتائج بعض الاستطلاعات في مصلحة الطرف الفلسطيني، حتى لو كان في بعضها انقسام بالرأي العام في عدة قضايا، مثل: القدس، تأسيس دولة فلسطينية، رفض بناء المستوطنات الإسرائيلية، واعتبار إسرائيل المعيق الأكبر لتحقيق السلام

إذا رجعنا للنظرة العامة لمسار استطلاعات الرأي الأميركية في الصراع العربي- الإسرائيلي فسنجد – سواء بقصد أو بدون قصد – غياب قضايا هامة وجوهرية في الصراع لم تتناولها هذه الاستطلاعات رغم أهميتها، مثل: اللاجئين، الجدار العازل، وامتلاك إسرائيل الأسلحة النووية، واغتيالها القادة الفلسطينيين، ومجزرة مخيم جنين، ولعل أهمها – بما نتحدث عنه هنا – ما يرتبط بقطاع غزة من حصار ومعاناة، ولا يتم السؤال عن القطاع إلا عند اندلاع الصراع العسكري الذي تكرَّر ست مرات منذ عام 2008، حيث شهدت بداية تحولات جذرية في الرأي العام الأميركي، أو فئات منه حتى نكون أكثر دقة، كما سنرى بعد قليل!

ويتماشى هذا التجاهل لقضايا مهمة- تدين الجانب الإسرائيلي أو تثير التعاطف مع الجانب الفلسطيني- مع التغطية المنحازة لوسائل الإعلام الأميركية المختلفة لمجريات الصراع العربي- الإسرائيلي، كان نصير عاروري قد ذكر بعضها في كتابه المهم: " أميركا …الخصم والحكم"، مثل: تسليط الضوء الساطع على العمليات الاستشهادية التي تقتل إسرائيليين مدنيين أو عسكريين، في مقابل التعتيم الكامل على ما تفعله إسرائيل من تدمير البنى التحتية والفوقية والحجر على السكان وحظر التجول والاعتقالات الإدارية والتعذيب ومصادرة الأراضي الفلسطينية!

سمة عامة مهمة أخرى، هي أن تعاطف الأميركيين كان باستمرار أكثر مع إسرائيل، وميلهم إلى تحميل اللوم بشكل أكبر على الطرف الفلسطيني في بدء العنف وتجدد القتال، وإدانتهم للعمليات الفلسطينية ووصفها بالإرهاب، مع أغلبية ترى أهمية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي للسياسية الخارجية الأميركية.

وفي مقابل هذه النتائج المزعجة، كانت نتائج بعض الاستطلاعات في مصلحة الطرف الفلسطيني، حتى لو كان في بعضها انقسام بالرأي العام في عدة قضايا، مثل: القدس، تأسيس دولة فلسطينية، رفض بناء المستوطنات الإسرائيلية، واعتبار إسرائيل المعيق الأكبر لتحقيق السلام. مع تساوي نظرة الفرقاء الأميركيين للصراع العربي- الإسرائيلي في عدة قضايا، مثل: مدى نجاح الضغوط الأميركية لتحقيق السلام.

وفيما يتعلق بمنهجية الأسئلة، فقد وجدت علاقة طردية بين تضمين خيار "ليس لدي معلومات كافية"، "وارتفاع نسبة من يختارون هذا الخيار"، مثل: تأسيس دولة فلسطينية، وهو أمر ذو دلالة إيجابية تجاه الفلسطينيين، ويبقى أفضل من الإجابات التي تدينهم، كما يزداد موقف الأميركيين الإيجابي حين يشار في السؤال لمسألة الانتخاب، مثل: التعامل مع حكومة حماس المنتخبة، كذلك، ثمة علاقة طردية بين تأييد الأميركيين والنص في السؤال على أن هذا هو رأي وموقف دولتهم المعلن، مثل: تأييد الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية.

وفيما يتعلق بغزة ما قبل الأزمة الحالية، ومثلما ذكرت في مقالات سابقة: " غزة.. بين خجل الأميركيين وظلم حكومتهم"، و" قراءة في النتائج والمنهجية. غزة في استطلاعات الرأي الأميركية"، فقد بدت إرهاصات تحول في الرأي العام منذ عام 2014، أظهرتها استطلاعات الرأي، مثل استطلاع Pew، حيث تبين أن الفئات الأقل عمرًا من الأميركيين – خلافًا لمن يكبرونهم في السن- يميلون إلى التعاطف بشكل أكبر مع الفلسطينيين، واستطلاع غالوب Gallup في نفس العام، حين اعتبر 51% من الشباب ما بين 18-29 سنة تصرفات «إسرائيل» في الصراع في الشرق الأوسط غير مبررة! أبرزت النتائج وجود صراع واضح، بين ثبات الاتجاهات التي سبق ذكرها، وبروز أخرى جديدة.

جاء هجوم حماس في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول ليستنفر العديد من المؤسسات الأميركية لتنفيذ موجة من استطلاعات الرأي العام، لكنها انحسرت، مع كل أسف، رغم ما تلا ذلك من عدوان إسرائيلي مستمر على غزة منذ 133 يومًا حتى كتابة هذه السطور، ومن هذه الجهات جامعة ميريلاند ووكالة رويترز.

تكثفت استطلاعات هذه الجهات في الفترة من 10-24 أكتوبر/ تشرين الأول، وتركزت أسئلتها حول الطرف الملام بشكل أكبر في اندلاع الحرب، والطرف الذي يحظى بالتعاطف بدرجة أكبر، ومدى إيجابية أو سلبية النظرة إلى طرفي الصراع، وتقييم دور الولايات المتحدة في الصراع، وما الذي يمكن أن تقوم به، وحجم دعمها إسرائيل، ونهج الرئيس بايدن في التعامل مع الصراع، وتقييم رد إسرائيل على هجوم حماس، ومدى الموافقة على الإجراءات الإسرائيلية تجاه المدنيين الفلسطينيين.

بعض النتائج قد تكون مدعاة للشك والريبة، وإن كانت متسقة مع الخط العام في انحياز الرأي العام الأميركي لصالح إسرائيل، مثلما ورد في استطلاع Fox News، الذي تم خلال اليومين اللذين أعقبا الهجوم، من أن 68% يؤيدون الإسرائيليين، مقابل 18% يؤيدون الفلسطينيين، فهذه القناة معروفة بتبنيها مواقف المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وتصرح بدعمها إسرائيل وعدائها للعرب، ومتهمة بالتحيز من قبل أكاديميين وسياسيين ومتابعين للإعلام الأميركي!

برز تعاطف غالبية الأميركيين بشكل أكبر مع إسرائيل في الاستطلاعات التي أجريت بعد هجوم حماس، فمثلًا في استطلاع جامعة  Quinnipiac، قال 61% إنهم يتعاطفون أكثر مع الإسرائيليين، مقابل 13% ممن يتعاطفون أكثر مع الفلسطينيين، ثم في استطلاع YouGov/The Economist، حين قال 48% إنهم يتعاطفون مع الإسرائيليين، و10% يتعاطفون مع الفلسطينيين، و23% مع كلا الجانبين.

ولاحقًا في استطلاع YouGov، حيث تبين أن 36% يتعاطفون أكثر مع الشعب الإسرائيلي، 11% يتعاطفون أكثر مع الشعب الفلسطيني، و35% يتعاطفون مع الطرفين بشكل متساوٍ. واستطلاع  Economist/YouGov، يتعاطف 41% أكثر مع الإسرائيليين، مقارنة بـ 13% يتعاطفون أكثر مع الفلسطينيين و28% يتعاطفون مع الجانبين بالتساوي تقريبًا.

استطلاع جامعة ميرلاند – Ipsos، الذي أظهرت نتائجه انخفاض الدعم لإسرائيل من 30.9% في أكتوبر/ تشرين الأول إلى 20.5% في نوفمبر/ تشرين الثاني، بينما ارتفع الدعم للفلسطينيين من 9.2% إلى 12.9%.

وفي نظرة على منهجية الاستطلاعات، يبدو أن صياغة الأسئلة قد ساهمت إلى حد كبير في خروج بعض النتائج التي تتفق مع الخط العام في الانحياز الأميركي لإسرائيل، مثل السؤال عن وصف حماس بأنها جماعة إرهابية، في استطلاع YouGov، بـ 64% واستطلاع Reuters/Ipsos ، بـ80% أو وصف هجومها بالإرهابي في استطلاع Quinnipiac University عند السؤال عن مدى الموافقة على ردة فعل إسرائيل على الهجوم 50%!

مقابل ذلك، كانت هناك نتائج تعكس تغيرًا واضحًا في الرأي العام، مثل انخفاض معدل الموافقة على أداء بايدن كرئيس للولايات المتحدة، في استطلاع  Gallup، إلى أدنى حد منذ تسلمه الرئاسة، ليصبح 37% فقط على مستوى إجمالي الناخبين، والتغير في آراء الشباب، مثل ارتفاع نسبة الشباب الديمقراطيين، في استطلاع جامعة ميرلاند، الذين يريدون أن تقف الولايات المتحدة إلى جانب الفلسطينيين من 16.2% في أكتوبر/ تشرين الأول إلى 23.2% في نوفمبر/ تشرين الثاني، وتأييد 58% من الشباب الأميركيين من عمر 18-24 لما فعلته حماس، واعتباره مبررًا بسبب المظالم التي تقع على الفلسطينيين.

كما أظهر استطلاع  Harvard CAPS-Harris الأول في نوفمبر/ تشرين الثاني، لترتفع النسبة إلى 60% في الاستطلاع الثاني في ديسمبر/ كانون الأول، والذي قال خلاله 51% من نفس الشريحة؛ إنهم يعتقدون أن الحل طويل المدى للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني هو "إنهاء إسرائيل وتسليمها لحماس والفلسطينيين"!

يبدو التحول في الرأي العام أكثر وضوحًا في الاستطلاع الذي أجراه مركز John Zogby Strategies لصالح المعهد العربي الأميركي Arab American Institute ، في 4-5 يناير/ كانون الثاني 2024، والذي عرض تناول مواقف الأميركيين تجاه: الفلسطينيين والإسرائيليين، سياسة الولايات المتحدة في هذا الصراع، المساعدة العسكرية الأميركية لإسرائيل، ووقف إطلاق النار.

فقد قال 37%؛ إنهم يعبرون عن تعاطف متساوٍ مع الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، ورغم أن 30% قد أعربوا عن تعاطفهم أكثر مع الإسرائيليين، فإن الفلسطينيين يحظون بدعم أكبر بين الناخبين الشبان 18-29 عامًا، 34% مقابل 16%، وبين الملونين 21% مقابل 17%، ومع استمرار الحرب زاد التعاطف مع الفلسطينيين بين فئات معينة؛ بين الديمقراطيين 23% مقابل 17% تجاه الإسرائيليين، وبين الأميركيين الشبان 37% مقابل 27% تجاه الإسرائيليين، وبين الملونين 29% مقابل 13% تجاه الإسرائيليين!

وقيّم 50% سياسة بايدن مع الصراع بأنها تفضل إسرائيل، ولكن عندما سئلوا عن السياسة التي ينبغي لإدارة بايدن اتخاذها، قال 42%؛ إن السياسة الأميركية يجب أن تكون متوازنة بين الاحتياجات الإسرائيلية والفلسطينية، وأنه برأي 57% ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل كوسيط عادل وغير متحيز بين الإسرائيليين والفلسطينيين، في مقابل 26% ممن قالوا؛ إن على الولايات المتحدة أن تقف دائمًا مع إسرائيل!

وانعكست هذه الآراء على مواقف المستجيبين حول المساعدة العسكرية الأميركية لإسرائيل، إذا قال 51% مقابل 26%؛ إنه على الولايات المتحدة ألا تقدم مساعدات مالية وعسكرية غير مقيدة للحكومة الإسرائيلية إذا استمرت في حربها بطريقة تعرض حياة المدنيين في غزة للخطر.

واتفق 51% مع أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين الذين عارضوا، في ديسمبر / كانون الأول الماضي، موافقة إدارة بايدن على مبيعات أسلحة بقيمة 147.5 مليون دولار لإسرائيل دون موافقة الكونغرس للمرة الثانية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، ووافق 41% على أنه قد حان الوقت لفرض شروط على المساعدات العسكرية لإسرائيل، البالغة 3.8 مليارات دولار سنويًا، عقب عمليتها العسكرية في غزة التي أسفرت عن مقتل أكثر من 20 ألف شخص!

ومال المستجيبون بنسبة 51% إلى تأييد أعضاء الكونغرس الذين يدعمون وقف إطلاق النار، في مقابل 24% ممن يؤيدون أعضاء الكونغرس الذين يعارضون الدعوات لوقف إطلاق النار!

وإزاء فيض النتائج، التي قد تبدو متضاربة، فإن الأطراف المختلفة تعمد إلى انتقاء ما يدعم قناعاتها والترويج له، سواء كانت أطرافًا داعمة للفلسطينيين أو لإسرائيل.

وفي هذا الإطار، يشار إلى بروز بعض الجهات اليهودية المتعاطفة مع إسرائيل، مثل: المكتبة اليهودية الافتراضية The Jewish Virtual Library أو مشروع إسرائيل The Israel Project، التي تميزت في أرشفة ونشر نتائج الاستطلاعات بما يظهر دعم وتعاطف أغلبية الأميركيين مع إسرائيل، كما فعلت المكتبة الافتراضية مؤخرًا بإبراز نسبة الـ 37% في ديسمبر/ كانون الأول، المرتفعة عن نظيرتها في الشهرين السابقين، من الموافقين على نهج بايدن في التعامل مع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي!

في المقابل، لم تفطن جهات عربية وإسلامية إلى تأثير استطلاعات الرأي العام، سواء بإبرازها أو الاستدلال بها، في حال كانت النتائج لصالح الفلسطينيين، أو نقدها في حال كانت غير علمية أو في غير مصلحتهم، باستثناء ما فعلته منظمة "مسلمون أميركيون لأجل فلسطين" American Muslims for Palestine AMP حين نشرت على حسابها على الفيسبوك نسبة الـ 61% من الأميركيين الذين يطالبون بوقف إطلاق النار في استطلاع Data for Progress، والـ 74% الذين يطالبون الولايات المتحدة بتقديم العون الإنساني للفلسطينيين في استطلاع Gallup!

في المجمل، تكشف هذه النتائج ضرورة عدم الوقوع في فخ الصورة النمطية، عن المجتمع الأميركي، بالنظر إليه كوحدة متجانسة متوحدة في تأييدها وانحيازها لإسرائيل، فرغم أن الأخيرة قد كسبت رصيدًا كبيرًا من الدعم الشعبي الأميركي خلال الأسبوع الأول من عدوانها، فإن كثيرًا من هذا الرصيد قد تآكل بسبب وحشية إسرائيل وهمجيتها في عدوانها على القطاع، والتي ساهم الإعلام الجديد غير الغربي في نقل صورها إلى الجمهور الأميركي، لتستفز نزعته الإنسانية ورغبته في السلام، وعلى الأخص فئة الشباب الذين بدت مواقفهم مفارقة إلى حد بعيد لتلك ممن يكبرونهم سنًا!

لقد أظهرت هذه الحرب بوضوح التأثير الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي في تحول توجهات الشباب الأميركي إزاء الحرب الأخيرة وحتى الصراع العربي- الإسرائيلي برمته، وأطلعته على الجانب الآخر من سردية الأحداث الذي طالما أمعنت وسائل الإعلام في إخفائه.

وهو الأمر الذي ينبغي للجهات الإعلامية والبحثية العربية والإسلامية، خاصة داخل الولايات المتحدة، ألا تغفله وتحسن توظيفه، لاستثمار هذا التحول في توعية قطاعات وشرائح أخرى في المجتمع الأميركي، أو على الأقل بتحييدهم، على أمل أن يحدث ذلك على المدى البعيد تحولًا مهما كان طفيفًا في السياسة الأميركية تجاه فلسطين وشعبها وقضيتها!