وحيدةً، خائفةً، باكية، منتحبةً، متشنجةً، مفزوعةً، مرعوبةً، تراقب بعينيها الواسعتين ضيقَ الأجل والأفق ومجال التنفس، ترقب أهلها السابحين في بركة دماء حولها، تستوحش بجثثهم المتجمدة، تمر الأيام وتتحلل الجثامين حولها، هذا خالي، وهذا صديقي ابن خالي، وتلك ابنة خالي.
لا يُسمح للأطفال برؤية وجوه الموتى حتى لا تثبت في أذهانهم، ولا تُطبع في عقولهم بدلًا من صورهم الحقيقية المرحة وهم على قيد الحياة، لكن هندًا ربما عانت طويلًا لمحاولة تذكّر وجه خالها الباسم بدلًا من الوجه الصريع، والخال والد، ووجه إخوتها الذين تحبهم بدلًا من تلك الوجوه التي ترعبها، هم مصدر الأمان والرعب في الآن ذاته؛ هم منتهى الحياة، والممات، في قلبها الأصغر بكثير من أن يتحمل موتًا جديدًا كل لحظة على مدار أيام طوال.
كيف مر الليل عليك يا هند، وكيف مرت ساعات الصباح؟ كيف مر صوت الجنود، ومحرك الدبابة، وأصوات القذائف؟ أي ملك حضر معك ليهون عليك البلاء الثقيل؟ وأي جندي من جنود الله لم يفارقك لكننا لم نره؟ هل عشتِ ذلكم كله وحدك؟ كم مرةً -يا حبيبتي- رأيتِ الموت ماثلًا أمامك، يزيحك يمنةً ليسحب من تحتك جثمان رغد، ويزيحك يسرةً ليسحب جثمان ليان، ويجلسك أرضًا ليسحب جثمان محمد، ويجلسك خلفًا ليسحب جثماني خالك بشار وزوجته؛ كيف مرت كل تلك النقلات على عقل واحد؟
كم اشتقت يا هند إلى أمك؟ كم خُلع قلبك الصغير وأنت تنادينها في الفراغ؟ كم أفزعتك الدماء على فستانك الورديّ؟ كم مرة تمنيت أن تعود خناقة الشكولاتة بينك وبين ليان، حين بقّعت ثيابك ربما بقطعة من الحلوى، وبكيتِ كأن عزيزًا مات لك، الآن الأعزاء والأحبّة من عائلتك حولك قد ماتوا، وما زالوا شهداءً ينزفون، وأنت تذرفين الدمع، وتنزفينه، طفلةً لم تجاوز السادسة من عمرها، كانت أكبر مخاوفها أن ترى دجاجةً تقترب منها، فما بالك يا حبيبتي إن دنت منك أبشع مخلوقات الكون، وأنت وحدك وحدك؟!
كالملاكِ، تطلين بعينيك الضحّاكتين اللتين تحبان الحياة، ترقبين الفرَج من ثغرات الزجاج المكسور، يدفئك شعاع الشمس، بعد زمهرير الليل الذي يجمدك، والجوع الذي يفتك بك، والعطش الذي ينحرك، والناس الآن -يا كبِدي- يقرؤون الوصف، وتضيق بهم الآفاق، ويتمنون لو تبلعهم الأرض، وأنت وحدك عشتِ ذلك كله، ليس لحظة قراءة ولا دقائق مقالة، وإنما مائة ساعة وأكثر، أو مائتي ساعة وأكثر، أو ثلاثمائة ساعة إن تأجل موتك قُبيل العثور عليك!
بمَ شعرتِ يا هند حين اقترب المسعفون، حين دنا منك الفدائيان المسعفان البطلان الشهيدان الشاهدان المشهودان أحمد المدهون ويوسف زينو، وربما ناداكِ كلاهما من بعيد: هيني جيت يا عمو، اطمني يا عمو، حبيبتي يا عمو، تبكيش يا عمو، بدك ميّ يا عمو؟ خلص جاي آخدك يا عمو.. قبل أن تقصفهما الدبابةُ، فيرتفع عدد المذبوحين حولك إلى سبعة بدلًا من خمسة، فمتِّ خوفًا قبل أن تموتي قنصًا، وأنت أصغر من أن تقتلك رصاصة كاملة، يكفيكٍ رصاصة بجوارك لتموتي على الفور! ولكنهم قتلوكِ بكل هذا!
وحدكِ يا هند، والعرب مجتمعون، وحيدة تمامًا، وهم محتشدون للغاية، وحدك في سيارةٍ، وهم معًا في مدرج كبير، تخيّلي يا صغيرتي اجتماع ثمانين ألف عربيّ في مكان واحد، ليس على الحدود لينقذوك، ولا في الشوارع يحرقون الأخضر واليابس مما له علاقة بذلك الاحتلال النازيّ الفاشيّ المجرم، استجابةً لك، وإنما -يا صغيرتي- لأن العرب صعدوا، والمجد للعروبة، ليس إلى علبة الصفيح التي تحاصرك ويراق فيها آخر ما تبقى من عمرك الضئيل، وإنما صعدوا، بدلًا من سيارتك المقصوفة، إلى كأس آسيا.
تركنا هند، وتركها حكامنا، سمعوا قصتها وتأثر بعضهم بينما مصمص البعض الآخر شفاهه وسب المقاومة التي وضعت الناس -حسب رأيه الذليل- في هكذا حالة، ثم أكمل جلسته المفضلة مع دنيّة قومه، وهندُ تصرخ، ونحنُ نكتب، ونشجب، وهي تنتحب، وتنشج، وكنا نعدّ الساعات حتى جاوز العداد قدرتنا على المتابعة، ونسيناها، تتحلل وهي حية بتحلل الموتى حولها، وهي وحدها، ونحن حشد كثيف.
قتلوكِ يا هند قبل الآن بكثير، حين وضعوا أيديهم في أيادي قتلتك، وطمأنوهم، على أن العلاقات أهم من هند، وأن السياسة برأس هند، وأن الاقتصاد أثمن من رقبة هند، وأن أي هند، مهما كان وصفها، طولها وعرضها، عمرها واتساع عينيها، سلمها ومقاومتها، كبرها وطفولتها، لا تعني ولا تقضي بأن تقاطَع إسرائيل، أو يُغضب منها، أو تنسَف بصواريخ العرب الصدئة، أو حتى، تجوع يومًا واحدًا مقابل جوع هند.. كانت هند وحدها في السيارة، جائعة، ظمآنة، والجسر البريّ، والجويّ، والبحريّ، العربي الإسلامي، ممدودًا إلى قناصتها، حتى لا يشعر ساعةً بالجوع، ولا يسمع دقيقةً قرقرة بطنه، بينما يؤدي واجبه نيابةً عنهم جميعًا، في ذبح هند، وغزة هندً، ببطء، ولذة!
ثم ماذا لو عاشت هند؟ ماذا لو بقيت؟ ماذا لو كانت نجت بعد كل ذلك؟ ماذا كانت ستنتظر؟ وحتى متى؟ ولأي وقت وأي ساعة؟ وبأي كيفية كان ليبقى موتها التالي؟ هل كانت ستعبر من رفح الموصد بخسّة البواب ونذالة الضابط ودناءة الحارس؟ هل كانت ستنجو من الجنون والكوابيس؟ كانت هند ببساطةٍ ستموت أيضًا، في الغارة التالية، أو المجاعة الحاضرة، أو الجفاف والعطش والمياه القذرة، أو الحزن والكمَد، بينما يحتفل العرب، والمسلمون، والزعماء المجيدون، أصحاب الفخامة والزعامة والسموّ، بصباحٍ جديدٍ، على قيد الحياة.
وحيدةً، خائفةً، باكية، منتحبةً، متشنجةً، مفزوعةً، مرعوبةً، تراقب بعينيها الواسعتين ضيقَ الأجل والأفق ومجال التنفس، ترقب أهلها السابحين في بركة دماء حولها، كانت هند لتختار الموت بينهم، على الحياة وسط الآخرين، وكانت لترضى، بائسةً حزينة مفجوعةً، بالسباحة، في دمائها، التي سُفكت ملياري مرة قبل لحظة الوداع.