لقد أصبح واضحاً تماماً الآن ما كان يدور في ذهن المسؤولين الإسرائيليين عندما أطلعوا صحيفتيّ New York Times وWall Street Journal الأمريكيَّتين على اختراق حماس المزعوم لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
ما زلت أجد صعوبةً في فهم سهولة ابتلاع الحكومات في جميع أنحاء العالم الغربي للطُعم، دون أي تدقيق في الحقائق، وكيف، في غمضة عين، قامت 17 دولة، يمثل تمويلها ما يزيد قليلاً على 440 مليون دولار، أي نصف الميزانية التشغيلية للأونروا، بتعليق تمويلها.
في مطلع الأسبوع، حين كان ينبغي لهذه الدول أن تفكر في وقف تمويل إسرائيل في أعقاب حكم محكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة في قضية الإبادة الجماعية لجنوب أفريقيا ضد إسرائيل، كان كل الحديث يدور حول وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة الوحيدة التي تبقي الفلسطينيين على قيد الحياة في غزة.
في حال نسي الجميع، هناك حرب تدور هناك.
توفِّر الأونروا حالياً المأوى لأكثر من مليون فلسطيني نازح في غزة في 154 موقعاً. ولا يقتصر الأمر على الفلسطينيين الذين توظفهم الوكالة، والذين يبلغ عددهم 13 ألف موظف، بل إن الأونروا هي أكبر وكالة إغاثة تعمل في منطقة الحرب هذه، وهي منطقة دمار لا مثيل له.
وتقوم شاحنات الأونروا، التي يقودها سائقون تابعون للوكالة، بنقل الإمدادات الضئيلة من الحدود. يقومون بالتحميل والتفريغ ونقل المساعدات في مستودعاتهم وتوزيعها. وهم يزودون وكالات الأمم المتحدة الأخرى.
قالت جولييت توما، مديرة الاتصالات في الأونروا: "إذا اختفت الأونروا، فإن العواقب ستكون كارثيةً على غزة".
ومع ذلك، فإن وقف عمليات الأونروا أصبح الآن احتمالاً حقيقياً للغاية.
وأضافت توما: "إذا لم يُستأنَف التمويل، فلن نتمكن من مواصلة عملنا الإنساني، بما في ذلك في غزة، بعد نهاية شهر فبراير/شباط. ليس لدينا احتياطيات، ولا مدخرات يمكننا الاستفادة منها في وقتٍ صعب".
قائمة متزايدة من الافتراءات
لم يتبادر إلى ذهني أي من هذا عندما أوقفت 17 دولة التمويل.
في لمح البصر، تحول الجيش الإسرائيلي، الذي قتل أكثر من 152 من موظفي الأونروا في غزة، في أذهانهم، إلى ضحية لوكالة الأمم المتحدة التي "اخترقتها حماس".
الأونروا
وقد أعادت وسائل الإعلام الدولية دون أدنى شك إنتاج "ملف" الأدلة المزعومة التي وزعتها إسرائيل على الصحفيين، وهو الملف الذي لم تسلمه رسمياً إلى الأونروا نفسها.
وعلمت وكالة الأمم المتحدة لأول مرة بالادعاء القائل بأن 12، ثم 190، ثم 1200 من موظفيها كانوا في البداية "أعضاء في حماس" عندما قرأوا عن ذلك في وسائل الإعلام. تقوم الأونروا بانتظام بمشاركة قوائم موظفيها مع إسرائيل ومع حكومات الدول التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين.
وفي مايو/أيار الماضي، سلّمت إسرائيل قائمة بأسماء جميع موظفيها في غزة والضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية. وأوضحت توما: "لم نتلق أي رد، ناهيكم عن الاعتراض".
من المؤكد أنه لو كانت إسرائيل تجمع معلومات استخباراتية حول اختراق حماس لوكالة حيوية تابعة للأمم المتحدة تضم هذا العدد الكبير من الموظفين في الأراضي المحتلة، لكانت قد أشارت إلى هذه المخاوف في عام 2023 أو في أي عام قبل ذلك.
إن دولة مضيفة لديها الفرصة للقيام بذلك، ولكن هذا لم يحدث قط. والأونروا قائمةٌ منذ فترةٍ تمتد لعمر دولة إسرائيل.
لم يتوقف أحد ليتفحص مدى مصداقية ادعاءات الجيش الإسرائيلي، أو يزنها في مقابل القائمة المتزايدة من الافتراءات المعروفة التي اختلقها نفس الجيش لتغطية آثاره على المدنيين الذين قتلهم في غزة.
أحد الادعاءات الإسرائيلية الأكثر تصديقاً هو أن الجنود عثروا على جهاز كمبيوتر مُدرج عليه عضوية حماس وقارنوا ذلك بقائمة الموظفين التي قدمتها الوكالة التابعة للأمم المتحدة. ونتيجة لذلك، توصلوا إلى أن حوالي 10% من موظفي الوكالة البالغ عددهم 13 ألف موظف في غزة كانوا أعضاء في حماس.
اسألوا أي خبير في مكافحة التمرد عن كيفية تنظيم الحركات الإسلامية وسيخبركم أنه توجد قائمةٌ مثل هذه. حماس ليس لديها قائمة بأعضائها. وحتى في دول مثل الأردن؛ حيث يُعتَرَف بجماعة الإخوان المسلمين رسمياً، لا توجد مثل هذه القوائم لعضوية جماعة الإخوان المسلمين. ولا وجود لمثل هذه القائمة في مصر أو في أي بلد به وجود سياسي لجماعة الإخوان.
هذه هي المشكلة التي واجهها الدبلوماسي البريطاني السابق جون جنكينز عندما كتب تقريره عن وجود الإخوان المسلمين في بريطانيا. قال لي حينها: "الإخوان ليس لديهم عنوان بريدي في هذا البلد. ليس هناك ما يمكن الحصول عليه، حتى لو أردنا ذلك".
هناك سبب لذلك: تُنظَّم الحركات الإسلامية وتُموَّل في خلايا يبقى وجودها سراً عن بعضها البعض.
القليل من المعلومات الموثوقة
هذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة لمنظمة عسكرية مثل حماس.
الرجال الأربعة في غزة الذين نظموا هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول أبقوا الخطة سراً عن كل عضو في حماس خارج غزة، بمن في ذلك صالح العاروري الذي قتله الإسرائيليون في بيروت الشهر الماضي.
جاء هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بمثابة مفاجأة لكل من ادعى في الشتات أنه على اتصال بحماس، وهي منظمة محظورة في المملكة المتحدة.
إن السرية متأصلة في كل مستوى من مستويات هيكل حماس؛ ولهذا السبب لم يكن معروفاً سوى القليل عن عدد المقاتلين لديها، أو أساليب تجنيدهم، أو مدى شبكة الأنفاق. وكانت ترسانتها من القنابل الصاروخية الخارقة للدبابات بمثابة مفاجأة غير سارة للجيش الإسرائيلي.
الكثير من المفاجآت يساوي القليل من المعلومات الموثوقة.
وللدفاع عن نفسه من الانتقادات في الداخل بأنه لم يحرز تقدماً في حملته البرية، ادعى الجيش الإسرائيلي في وقت ما أنه اكتشف مخبأً كبيراً للأسلحة في أحد الأنفاق. وكان من السهل على حماس أن تنفي ذلك.
ليس لديهم مخازن للأسلحة. تُوزَّع كل قوتهم النارية وأُخفيت بعناية لسبب عسكري أساسي وهو أن أي مخبأ للأسلحة مهما كان حجمه سيكون عرضةً للضربات الجوية.
ويجب على أي صحفي أو حكومة تردد هذه الادعاءات الإسرائيلية أن يتذكر عدد المناسبات التي شُهِدَ فيها الجيش الإسرائيلي خلال الأشهر الأربعة الماضية وهو يقوم بتلفيق الأدلة حول ما كان يفعله في غزة.
ويُعَد الاغتيال المستهدف للصحفي حمزة الدحدوح، نجل مدير مكتب الجزيرة في غزة، وائل الدحدوح، أحد الأمثلة العديدة الحديثة.
كان حمزة وصديقه مصطفى ثريا ضمن مجموعة من الصحفيين يغطون مكان الغارة الجوية. كان ثريا هو الذي يصوِّر الطائرات المسيَّرة في غزة، وكانت الطائرة التي يصوِّرها تحلِّق لفترة وجيزة لمسح المكان.
وبعد لحظات قليلة، تعرض موكب الصحفيين المغادرين لضربتين بطائرتين مسيَّرتين، استهدفت الثانية سيارةً قُتِلَ فيها حمزة ومصطفى. وزعم الجيش الإسرائيلي أنه استهدف "أشخاصاً متورطين في مجموعات تهاجم الجيش".
يعرف كل صحفي قام بتغطية الصراع أن الصحفيين هم الهدف المتكرر للجنود الإسرائيليين، بدءاً من القناص الذي قتل شيرين أبو عاقلة، الصحفية الفلسطينية الأمريكية، وصولاً إلى ما لا يقل عن 117 صحفياً قُتِلوا على يد إسرائيل في غزة خلال هذا الصراع.
إن الادعاءات الاستخباراتية التي تنشرها إسرائيل علناً لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد.
فلماذا إذاً يمكن لجيش له سجل حافل في نشر أخبار كاذبة حول عملية تستغرق وقتاً أطول بكثير مما كان يعتقد، أن يُصدَّق بشأن منظمة تابعة للأمم المتحدة كان يريد حلها لسنوات عديدة؟
حق العودة
دعونا نصل إلى السبب الحقيقي الذي يجعل إسرائيل تحاول دفع الأونروا إلى "الانهيار".
لا يتعلق الأمر بحماس ولا بالحرب الجارية في غزة. وعلينا أن نعود بالزمن إلى قرارات الأمم المتحدة عام 1947، وإنشاء إسرائيل كدولة عام 1948، وقبولها كدولة في الأمم المتحدة.
صيغَ حق عودة اللاجئين الفلسطينيين لأول مرة من قبل وسيط الأمم المتحدة لفلسطين، فولك برنادوت، الذي دفع من أجل ذلك خلال الهدنة التي تم التوصل إليها في يونيو/حزيران 1948.
كتب في تقريره العام الأول للأمين العام في 1948: "سيكون انتهاكاً لمبادئ العدالة الأساسية إذا حُرِمَ هؤلاء الضحايا الأبرياء للصراع من حق العودة إلى ديارهم بينما يتدفق المهاجرون اليهود إلى فلسطين، وفي الواقع، سيشكلون على الأقل تهديداً بالاستبدال الدائم للمهاجرين العرب".
برنادوت، وهو سويدي أنقذ آلاف اليهود من الاحتجاز بمعسكرات الاعتقال، اغتيل على يد جماعة يهودية سرية تحت قيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي لاحقاً إسحق شامير. لكن حق العودة الذي أثاره أُدرِجَ في قرار الأمم المتحدة رقم 194.
وكان هذا شرطاً لانضمام إسرائيل إلى الأمم المتحدة عام 1949. وسئل ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة، أبا إيبان، عما إذا كانت إسرائيل ستحترم التزاماتها بموجب القرار 194. أجاب إيبان: "يمكنني أن أقدم إجابةً إيجابية غير مشروطة عن السؤال الثاني وما إذا كنا سنتعاون مع أجهزة الأمم المتحدة بكل الوسائل المتاحة لنا لتنفيذ القرار المتعلق باللاجئين".
تأسست الأونروا عام 1949 لتوفير التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية لنحو 700 ألف لاجئ تسببت إسرائيل في كونهم لاجئين.
لا أونروا ولا لاجئون
إنها اليوم المنظمة الوحيدة التابعة للأمم المتحدة التي تعرِّف اللاجئ الفلسطيني بأنه الشخص الذي كان مكان إقامته فلسطين في الفترة ما بين يونيو/حزيران 1946 ومايو/أيار 1948 والذي فقد موطنه نتيجة للنزاع.
ينطبق وضع اللاجئ على جميع أحفاد هؤلاء؛ مما يعني أن الأونروا الآن تساعد أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني مسجل في لبنان وسوريا والأردن والضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة.
وإذا نجحت إسرائيل في إقناع الرئيس الأمريكي جو بايدن بإلغاء الأونروا ونقل ما تفعله إلى وكالات أخرى؛ مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أو برنامج الغذاء العالمي، فإن الأمم المتحدة لن تعترف بعد الآن بما يصل إلى خمسة ملايين فلسطيني كلاجئين.
لا أونروا ولا لاجئون. ولا لاجئون هنا تعني لا مشكلة. تتهم إسرائيل الأونروا "بإدامة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" من خلال السماح للاجئين الفلسطينيين بنقل وضعهم كلاجئين إلى الأجيال القادمة.
في الواقع، إسرائيل هي المسؤولة الوحيدة، وبشكل متسلسل ومتكرر، عن خلق اللاجئين وحرمانهم من حقهم في العودة إلى ديارهم. ويوم الأحد، حاول 12 وزيراً في الحكومة الحالية جاهدين خلق المزيد من اللاجئين.
حضروا مؤتمراً يدعو إلى إعادة توطين قطاع غزة، وهو مثال علني مرعب للتحريض على الإبادة الجماعية قيد النظر أمام المحكمة الدولية.
أحد مؤسسي حركة إعادة التوطين في غزة هو القاتل المدان عوزي شرباف، الذي قضى سبع سنوات لقتله ثلاثة طلاب في الكلية الإسلامية في الخليل عام 1983.
ومن الطبيعي أن يحضر المؤتمر أولئك "الأشرار" -مثل وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش- ولكن حضره أيضاً عرضٌ قوي من حزب الليكود.
وناقش المؤتمر مفهوم "الهجرة الطوعية" للمدنيين الفلسطينيين في غزة. وأوضح وزير الاتصالات من حزب الليكود، شلومو كارهي، أنه في الحرب فإن "الطوعية في بعض الأحيان هي حالة أنت تفرضها على شخصٍ ما حتى يعطي موافقته".
انهيار الولايات المتحدة
تلقي الولايات المتحدة محاضرات على العالم حول نظام عالمي قائم على القانون، فيما أمرت المحكمة الدولية إسرائيل باتخاذ كافة التدابير التي في وسعها لمنع أعمال الإبادة الجماعية والمعاقبة على أعمال التحريض.
وهذا رد 12 وزيراً في الحكومة على حكم المحكمة الدولية وواشنطن لا تفعل شيئاً.
وبدلاً من إجبار إسرائيل على الامتثال لقرارات المحكمة الدولية، ناقشت مجموعة من الديمقراطيين في البيت اليهودي بدائل للأونروا مع العقيد إيلاد غورين، رئيس الدائرة المدنية في وحدة منسق الأنشطة الحكومية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
ونفى غورين علناً حدوث مجاعة جماعية في غزة، وادعى أن إسرائيل بذلت قصارى جهدها لتسهيل تدفق المساعدات إلى غزة.
وكما لو كان لدى أي شخص أي شك في نية إسرائيل، قال نتنياهو يوم الأربعاء إنه من الضروري إنهاء مهمة الأونروا.
تنقاد الولايات المتحدة إلى طريق لا يؤدي إلى حرب إقليمية فحسب. إنها تسير على طريق تدمير حياة الملايين من اللاجئين في جميع أنحاء العالم العربي، وهو عمل من شأنه أن يزعزع استقرار الأردن ولبنان، وكذلك جميع الأراضي المحتلة.
ومن الجنون أن تلتزم الولايات المتحدة بهذا. وحتى الآن لم تُظهِر واشنطن أي إشارة على الإطلاق إلى إدراك مدى خطورة هذا المسار على النظام العالمي.
عندما تكتب أجيال المستقبل تاريخ انهيار الولايات المتحدة كزعيمةٍ عالمية، فإن مثل هذه اللحظات هي التي سوف تكون بمثابة النقاط الحاسمة في اضمحلال أمريكا كقوة عالمية كبرى.