اهتز قلبها وهي التي لم تغلق جفنيها منذ ساعة تتابع مجريات تطورات عدوان الاحتلال على قطاع غزة، لحظة معرفتها بإصابة واستشهاد عدد من أفراد عائلة الرواغ من إحدى مرافقات المرضى المتواجدات معها بمستشفى بئر العبد بمحافظة سيناء بمصر. وضعت يدها على قلبها: "الله يستر" عندما تجاهلت اختها سؤالها في اتصال هاتفي عن مصير زوجها وأولادها "والله يختي ما بنعرفش، خلينا نتأكد وأرجعلك" ثم اتصلت بأحد الجيران مع تأخر شقيقتها بالعودة إليها، فلم يكن كلامه بعيدا عما ذكرته شقيقتها " الوضع هادئ" فعاودت الاتصال به فوجدت هاتفه مغلقا ما أثار في داخلها غبار الشك بحدوث أمر لعائلتها.
لساعة حاولت أم لؤي (زوجة الصحفي إياد الرواغ) لملمة أفكارها التي تلاعبت بدقات قلبها، وترويضها على الصبر والتماسك، قبل أن يرتج هاتفها مرةً أخرى، أخفت المتصلة جزءً من الحقيقة رأفةً بحالها: "زوجك مصاب"، كان صوتها مرتعشًا وهي تسألها: "مستشهد ولا مصاب!؟"، فتركتها تواجه الحقيقة المُرَّة وحدها: "مش عارفة باقي التفاصيل".
تصفحت هاتفها بعدما قرأت ما تيسر من القرآن الكريم، وفي أول تصفحها اصطدمت بالخبر الذي حاول الكثيرون إخفائه عنها حتى مرافقات المرضى بجوارها اللواتي أخذن هاتفها لنحو ساعة لتأخير معرفتها بالخبر.
أمنية تأخرت
فوقفت في ذهول وهي تقرأ خبر نعي زوجها الصحفي "إياد الرواغ" لتعيده مرة واثنتين وتتفقد الصورة لعلها تكون تشابه أسماء أو خطأ ما" قبل أن تسلم قلبها لأمنية تأخرت كثيرا عندما كان يخبرها أنه يريد "الشهادة" وكرر الأمر في بداية الحرب عندما التقط صورة "سلفي" وطلب منها في حال استشهاده أن تنشرها فسجدت صابرة محتسبة تسترجع الله في مصابها.
ظلت تعتقد أن زوجها استشهد فقط، حتى اتصلت بشقيقة زوجها المتواجدة بتركيا تخبرها أنها "اصطفت زوجها" لكنها تريد معرفة مصير أبنائها وذهبت توقعاتها "أنهم بخير"، فجاءه الرد من طرف السماعة الأخرى بكلمات مختلطة بالدموع "اصطفيهم عند ربنا" في مجزرة استشهد فيها 11 فردا من عائلة الرواغ في قصف الاحتلال لمنزل عائلته الواقع بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة فجر 25 يناير/ كانون ثاني 2024.
استشهد بالمجزرة الصحفي الرواغ، وأطفاله: ندى (16 عاما) ولؤي (15 عاما) ويزن (عشر سنوات) والرضيع أحمد (ستة أشهر) الذي بقي مع والده عندما سافرت أمه لمرافقة شقيقه محمد الذي اصيب في الاستهداف الأول لمنزلهم وسافر لمصر ولم تتمكن من اصطحاب الرضيع، واستشهد في المجزرة اثنين من أبناء شقيقه وهم محمد (25عاما) وأحمد (30 عاما) ، وشقيقته انسحاب (46 عاما) وهي من ذوي الإعاقة.
في المشفى وقفت أمام ابنها المصاب "محمد"، تساقطت دموعها رغما عنها تتحسس وجهه وتحتار في كيفية إخباره بالخبر وهو الذي يبكي مرارا وأحيانا يتمرد على أخذ الدواء كلما غلبه الشوق لأشقائه يطلب العودة إليهم، قبل أن تتلقى اتصالا من شقيقتها خفف من قسوة الخبر المفجع عندما أخبرتها بنجاة طفلها يامن (ست سنوات) وهو بحال جيدة مع بعض الكسور في قدميه.
الاستهداف الأول
مع بدايات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، قصف الاحتلال أرضا مجاورة لبيتهم أصيب على إثرها نجله محمد (12 عاما) إصابة خطيرة بالرأس أحدثت نزيفا بالمخ وكسرا بالجمجمة، وأثناء زيارة أمه لنجلها بشكل طبيعي طلب منها الطبيب الخروج مع طفلها في الإسعاف نظرا لخطورة حالته بعد صدور تحويلة عاجلة لنقله لاستكمال علاجه بالمستشفيات المصرية.
"قلت للطبيب: لدي طفل رضيع ولا يستطيع العيش بدوني، فأخبرني أن الإسعاف يريد التحرك ولا يوجد وقت معهم، فاتصلت بزوجي فطلب مني السفر ولا زالت كلماته عالقة في ذاكرتي "توكلي على الله وسيبي الولد في رعاية الله ورعايتي" وعانى والده في رعايته خاصة بعد رفضه لتناول الحليب الصناعي فأصبح جسده نحيفا" بصوت صابر تروي الرواغ لصحيفة "فلسطين".
في التاسع من يناير/ كانون ثاني نشر الرواغ مناشدة على صفحته على "فيسبوك" كان يبحث فيها عن أي مرافق مصابين لنقل طفله الرضيع أحمد لوالدته المتواجدة في مصر، بسبب نفاد الحليب في قطاع غزة وعدم وجود "ما يسد جوعه" كما كتب في المناشدة.
شاء القدر أن يظل الطفل الرضيع مع والده ويرحل معه، فخطفت الصواريخ الإسرائيلية الطفل قبل أن يصل لحضن أمه عندما والده حاول إرساله بعيدا عن أصوات القصف والخوف والرعب والجوع التي واجهها مبكرا في حياته القصيرة، تغيرت فيها ملامحه وبهت جسده وقتل بحضن والده.
قبل الاستشهاد بليلة، رن هاتفها وأضاءت شاشته باسم زوجها الصحفي إياد الرواغ الساعة الواحدة فجرًا، وعبر لها بكلمات دافئة عن شوقه وشوق أطفاله لعودة لمتهم، وصدم عندما أخبرته أن علاج طفله محمد يستمر شهرين، تطلُ من نافذة الحزن على تفاصيل المكالمة الأخيرة: "تحدث مع محمد وأخبره أن اشترى له دراجة هوائية، وكان يصبره حينما قال له: "أنت قاعد بمكان كويس وحلو بعيد عن القصف، وأحمد ربنا أنه وصلت للمرحلة هاي وتماثلت للشفاء. احنا مشتاقينلك بس بدنا إياك ترجع وأنت بخير".
في تلك المكالمة التي وصفتها بـ "حديث الوداع" أيقظ جميع أطفاله من النوم وتحدثوا مع والدتهم، تحدثت مع ندى الملقبة بـ "زهرة البيت" كونها وحيدة على خمسة أولاد مع أمها، وأوصتها على أخوتها فكانت أما لهم في غياب والدتهم، وأسمعها زوجها صوت الرضيع يامن وهو يناغشه وطمأنها بأنه استطاع هرس البسكويت المدعم مع الحليب مما حسن حالته الصحية، وتحدث يزن مع شقيقه محمد وعبر عن شوقه للعلب معه، وأخبرها زوجها أنه يجمع الحطب أو يشتريه ليطهو الطعام على النار وتساعده ابنة شقيقه في الخبز على فرن الطين.
يرافق الغضب صوتها وتساءلت بقهر "ماذا فعل الأطفال وشقيقة زوجي من ذوي الإعاقة لكي يتم استهدافهم؟ طفلي الرضيع ما ذنبه أن يحرم من الحياة، اسأله الله أن يصبرني على غيابهم".
إضافة لعمله الصحفي حفظ الرواغ القرآن الكريم وكان يحفز أبناءه على حفظ القرآن، وكان في البيت "شخصية نادرة" تزيح زوجته الستار عن بعض مواقفه "كان يساعدني بأعمال البيت ويوم إجازته يقول لي "سيبي المطبخ" وكان سعيدا بذلك، وعندما يزورني أي أحد من أهلي أو أقاربي يطلب مني الجلوس معه، ويتولى هو وندى ضيافتهم".
عمل الرواغ مذيعا ومعدا للبرامج بإذاعة صوت الأقصى وكان يقدم برنامج "أطفال أفنان وأغصان" يحب الأطفال لدرجة كبيرة، تستذكر زوجته بعضا من مواقفه مع الأطفال "عندما كان يزورنا أي طفل من أبناء شقيقاته كان يجلسه في حضنه ويلاعبه، وكذلك كان محبوبا بين الناس ومعطاء ومبادرا ولم يقصر مع أحد وكان سباقا في عمل الخير".
عرفته زوجته بإخلاصه وتفانيه في عمله حتى في يوم إجازته كان يستقبل اتصالات زملائه، لم تنس كلماته المواسية لها يوم وفاة أمها "أنا أمك وأخوك وكل حاجة إلك"، ترثيه "كان حياتي كلها، خلوق حافظ لكتاب الله محبوبا بين الناس حنونا بدرجة غير طبيعية، لم يغضب الله يساعد المحتاجين".
خلال اشتداد أزمة الدقيق في قطاع غزة استطاع الرواغ شراء "كيس طحين" أجضره من مدينة خان يونس، وعندما طرقت جارتهم باب بيتهم تطلب طبق طحين لتطعم أطفالها فقام بإعطائهم نصف الكيس"، تعلق زوجته "قلت له: "الكمية التي تركتها لنا لا تكفينا" فطلب مني أن أحمد الله وفي نفس اليوم طرق أصدقاء له باب بيتنا وأعطوه كيس طحين، وفي العيد كان يساعد الأيتام في شراء ملابس العيد لهم بما تيسر معه".