فلسطين أون لاين

25 شهيدًا في قبور جماعية

تقرير عائلة "غباين" .. رحيل جماعي لعائلة بحثت عن الأمن ولم تجده

...
جثامين شهداء عائلة غابين غزة
غزة/ يحيى اليعقوبي:

وقف أمام خمسة وعشرين جثمانًا من أفراد عائلته تراصت على عدة صفوف، طلب منه التعرف على هوياتهم جميعًا، بعدما شوهت الصواريخ الإسرائيلية معالم وجوههم وأجسادهم، لم تختزن ذاكرة مصطفى غباين تلك الملامح من قبل كي يستطيع  التعرف عليها، لا يصدق أنه يقف في مشهد وداع لعائلته التي كان يجلس معهم قبل أيام، وتحت ضراوة القصف الإسرائيلي في منازلهم الواقعة شرق "حي الشجاعية" بمدينة غزة نزحوا تجاه مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، واستشهدوا جميعًا بقصفٍ لمنزل عائلة "صيدم" نزحوا إليه.

لم يتمكن من التعرف إلى شقيقه الشهيد "محمود" من ملامح وجهه التي شوهها الصاروخ الإسرائيلية وبالكاد استطاع معرفته من قدميه ويديه، وكذلك الأمر مع ملامح شقيقاته وخالاته وأزواجهن وأولادهن الأطفال، وكأنَّه يقف أمام عائلة لا يعرفها وهو الذي كان بينهم قبل عدة ايام حينما جاؤوا إلى منزله في "حي الشجاعية".

مع انتصاف الليل، جلس "مصطفى" وحيدًا أمام جثامين الشهداء التي لم تجد مكانًا لها في ثلاجات الشهداء والموتى فتراصت داخل أكفان بيضاء على الأرض في عدة صفوف، لم يتسع عقله لاستيعاب الصدمة ولم يتسع قلبه لحمل ثقل رحيل جماعي لمعظم عائلته، احتارت دموعه على أي جسد تبدأ في ذرف دموعها، على شقيقه وأبنائه أم شقيقاته أم خالاته، فجميعهم لهم نفس القدر من الحب ونفس المشاعر من الحزن التي انفطر بها قلبه، فوقف من بعيد تبلل وجنتيه دموع حارقة.

حتى صباح ظلَّ بهذا السكون يراجع ذكريات جميلة اتخذت مواقعها في رفوف ذاكرته، يستحضر ضحكاتهم الغائبة لماتهم وجلساتهم وصرخاتهم الأخيرة مع كل أصوات قصف قريبة حينما نزحوا إلى منزله قبل انتقالهم لمخيم "النصيرات"، ليواجه بها فاجعته وصدمته برحيلهم.

انتهت رحلة النزوح وتوقفت في مخيم "النصيرات" بعد أيام وليال عصيبة عاشها الأطفال في رعب وخوف، من القذائف الإسرائيلية التي لم ترحم صغر سنهم وطفولتهم، وخوف الأمهات على أولادهن، فكانت أكبر من محاولتهن للثبات أو الصبر على تحمل أصواتها المرعبة وتوالي سقوطها.

بمراسم تشييع سريعة، نقلت فيها جثامين الشهداء بشكل جماعي بواسطة اسعافات أو حافلات لمواراتها الثرى، وحضر من يستطيع من العائلة أثناء الصلاة عليهم، وهكذا يدفن الشهداء خلال العدوان، فالصواريخ تطال كل شيء، والفقد يدخل بيوتا كثيرة، والصواريخ تمسح عائلات من السجل المدني في حرب إبادة تشن على الشعب الفلسطيني.

لشدة طول قائمة الشهداء دون مصطفى أسماء عائلته على ورقة، فضمت اسم شقيقه محمود الذي استشهد هو وزوجته المعلمة "عبلة" وبناته الثلاث سواء وديما وكنزي، ومنير والد زوجته استشهد مع زوجته "فوزية" وأبناؤه عبد الله وكريم، وابن خالته "عبد الله" وهو زوج اخته "مريم" استشهدت معه وثلاث بنات وابنه الوحيد (صهيب).

قبر واحد

وضع الشهداء في قبور جماعية، وضم كل قبر كل عائلة من الأب والأم والأولاد، عاشوا في حياتهم تحت سقف بيتٍ واحد، وفي مماتهم ضمهم قبر واحد.

"الكل يعلم صعوبة الوضع في مدينة غزة وشدة القصف وخطورته، فتشاورنا واتفقنا أن ننزح تجاه محافظات جنوب ووسط القطاع، ذهبت لمنزل صديق لي، أما أخي محمود وزوجته وبناته الثلاث مع أختي "مريم" وزوجها عبد الله وبناتهم وولدهم الوحيد، ووجدوا مكانا هناك لصديق زوج خالتي من عائلة "صيدم" بمنطقة السوارحة بالنصيرات" تبلل الدموع صوت مصطفى غباين.

يحاول لملمة المشاهد المتناثرة في زحام ذاكرته "تحدثت مع أخي "محمود" وسألته: "أين أنتم!؟" عبر تطبيق مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" فطمأنني أنهم بخير في النصيرات، وكانوا 25 فردًا، ثم صعقت بخبر استهدافهم جميعًا بلا سابق إنذار خرجوا كلهم جثثًا".

 

 

تخرج الكلمات من قلب صابر محتسب "بالكاد استطعت التعرف عليهم، أخي محمود الذي كنا ننام على سرير واحد في نفس الغرفة في طفولتنا وشبابنا كانت ملامح وجهه مختلفة وتعرفت عليه من القدمين واليدين والجسد، وخالاتي كذلك بالكاد تعرفت عليهم، أغلب الأطفال كانت جماجمهم مهشمة".

ترسم عيناه خطًا من الحزن قائلاً عن شقيقه "محمود": "كان حنونًا على شقيقاتي السبع، يصغرني بست سنوات لكنه كان يدخل البهجة على قلوب الجميع، ومحبوب لدى العائلة دائمًا يرسم الابتسامة في حضوره".

لم يسكن البيت

قبل المعركة بيومين أنهى "محمود" تشطيب شقته وانتهى العمال من أعمال الجبس، تحضره لهفة شقيقه وأطفاله: "باع سيارته، وقام بتشطيب الشقة وكان يستعد لشراء أثاث جديد، كنت أقول له اقتصد في التكلفة فشعرت أنها مضاعفة، فقال لي: "خلص هدي دار العمر.. خليني أفرح فيها وأنبسط".

لا يتخيل مصطفى أن العائلة التي كانت تجتمع في كل مناسبة تفرقت، "نحن سبع شقيقاته وثلاثة أشقاء أنا ومحمود وعبد الرحمن، رحل ثلاثة منهم، كنا نجتمع في كل مناسبة، كأي عائلة مترابطة".

أما شقيقته "مريم" فكانت "حنونة" لدرجة كبيرة، وفي ذات الوقت شديدة الخوف، تطل صورتها على حديثه: "بمجرد أن يحدث أي تصعيد ولأنها كانت تسكن في منطقة متقدمة شرق غزة، كانت تأتي لبيتنا مباشرة".

قبل أيام أضاءت العائلة شمعة ميلاد "ميرا" ابنة شقيقه ابتهاجا ببلوغها العامين، كانت هذه الشيء الجميل في ذكرياتهم الأخيرة وسط مشاهد من الرعب والخوف والتنقل من بيت إلى آخر بقيت جاثمة على ذاكرة "مصطفى"، جمع أكتوبر ذكرى الميلاد والاستشهاد.

ذكره ميلاد الطفلة بميلاد شقيقه محمود في 17 سبتمبر في لحظة حضرته صور من الماضي لتطل على حاضره المؤلم:" كان أيضا يوم ميلادي في 19 سبتمبر، وطوال حياتنا كنا نحيي ذكرى ميلادنا معا، حتى أننا الشهر الماضي جمعنا شقيقاتي وأضأنا شمعة ميلادنا".

أما "روز" فكانت تحب قضيتها وتتفاعل مع كل هموم وطنها عبر صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي، في آخر منشور كتبه قالت "الجنة أقرب من سيناء" وكأنَّ قلبها كان يشعر بقرب رحيلها دون أن تشعر.

"كانت روز تهوى تربية القطط منذ طفولتها، وكانت معلمة مجتهدة لدرجة أنها كانت تعمل متطوعة، وفي آخر مكالمة بيننا وكوني أعمل في التربية والتعليم، كانت تريد أن تبقى في المدرسة التي تتطوع فيها في حال حصلت على عقد عمل لشدة إعجاب مديرة المدرسة في أسلوب تدريسها وتعلق الطلاب بها".