أشبه "بخلية نحلٍ" يعملون، تركوا منازلهم وعائلاتهم، وتفرغوا لإسعاف المصابين، لا تتوقف حركتهم داخل قسم الطوارئ بمستشفى الشفاء بمدينة غزة، فبين الدقيقة والأخرى كانت أصوات الإسعاف التي تنقل المصابين تتوالى، كان الأطباء والممرضون يعملون بجهد مضاعف يسابقون الوقت ويدركون أهميته في اسعاف الحالات.
ما أن يستقبلوا الحالة المصابة من سيارة الإسعاف، يقوم فريق طبي بتشخيصها سريعا وتوزيعها على قسم طوارئ الحالات الطفيفة أو المتوسطة أو العناية المركزة أو المشرحة إن كان شهيدًا، يحملون أمانة القسم وواجبهم المهني والوطني تجاه أبناء شعبهم، يتعامل كل طبيب على الأقل مع 80 حالة يومية ومن خلفه يقف الممرض والحكيم والطواقم الأخرى، فيما تعمل الطواقم الشرطية على توفير الأمن لخلق بيئة مناسبة لعمل الأطباء والممرضين.
الطبيب "الحرازين" ..4 أيام بلا نوم
كانت علامات الإرهاق تعتلي ملامح الدكتور جمال الحرازين وهو رئيس قسم الطوارئ بمجمع الشفاء الطبي، فلم يغادر المشفى منذ أربعة أيام كما أنه لم يستطع النوم لحظة واحدة أو سرق بعض الدقائق لإراحة عينيه، ليتابع استقبال الإصابات بمختلف أنواعه التي ترد من أماكن القصف أو تحول من المستشفيات الأخرى بداخل القطاع خاصة من مدينة بيت حانون شمال القطاع بعد توقف مستشفى "بيت حانون" عن الخدمة.
على مدار يوم كامل تواجدنا بقسم "الطوارئ" بمستشفى الشفاء عايشنا جهود الأطباء والممرضين في التعامل مع المرضى، وهم يبذلون كل طاقاتهم ويسخرون كل قدراتهم العلمية يجاهدون التعب والأرق ويقتصدون في ساعات النوم وبعضهم لم تزد ساعات نومه عن ساعتين أو ثلاث ساعات، وبعضهم حاول النوم فاستدعي بعد دقائق نتيجة وصول أعداد كبيرة من المصابين جراء المجازر المتتالية التي يرتكبها الاحتلال كما حدث مع الطبيب الحرازين.
بصوت مرهق وملامحه متعبة، يقول الحرازين: "نعمل بوضع صعب، نتحدى التعب النفسي والجسدي، وبين قلقنا على عائلاتنا ومساعدة المصابين بالمشفى، نتحدى نقص الأسرَّة والأدوية والمستلزمات الطبية. يأتيك مصابٌ فتفكر بالمصاب الذي يليه، نخصص كل طاقتنا لأجل أبناء شعبنا".
يعمل فريق مكون من نحو 50 طبيبا وممرضا على مدار الوقت في استقبال الإصابات، قسم إلى مجموعتين "أ" و"ب" بحيث يعمل كل فريق لمدة 24 ساعة متواصلة إلا أن الكثير منهم اضطر للعمل لمدة 48ساعة متواصلة، مدركين عظم الأمانة والحمل الملقاة عليهم في إسعاف المصابين وبلسمة جراح المصابين من بطش العدوان الإسرائيلي.
يصلهم يوميا نحو 500- 700 مصاب، وهذا بالنسبة للحرازين يفوق قدرات أي مشفى، وشكل عبئا إضافيا عليهم، يوضح وهو يوسع نظرته لتشمل كامل الأسرّة "الإصابات مهولة، تفوق قدراتنا وقدرات أي مستشفى عن العمل عدد الشهداء كبير، إلا أننا مستعدون لبذل كل وقتنا وجهدنا لأجل أبناء شعبنا" قطع الحرازين حديثه بعدما دوت أصوات سيارات الإسعاف.
لحظة وصول السيارات، تسارعت حركة الممرضين والأطباء في استقبال الحالات وبدء أعمال وقف النزيف، اتكأ "محمد" على الحائط يتابع بعينين لم تتوقفا عن ذرف الدموع يتابع تدخل الأطباء لإسعاف ابن شقيقته الذي أخرج من بين الردم، وبينما كان يستعد لاستقبال خبر استشهاد الطفل، جاءه الطبيب بعد معركة خاضوها وفرد ابتسامة وطمأنه: "روح اقعد جنبه الخطر زال والحالة أصبحت مستقرةً".
في غرفة أخرى، يلف الشاش الأبيض جسد الطفلة صبا سالم (5 أعوام) وشقيقها الذي لم يزد عمره عن عامين، لم يظهر لكَ سوى أطراف وجههما، لوهلة تعتقد أنهما شهيدتان، قبل أن تتفتح عينا "صبا" تقرأ علامات الصدمة في عينيها ووجهها المليء بالندب والشظايا، بينما ظل شقيقها نائمًا بعد تدخل الأطباء وزوال الخطر عنهما.
ممرضة حامل على رأس عملها
أما الممرضة ديانا أبو سويرح وهي حامل بالشهر السابع، فلم يمنعها حملها من القدوم لمستشفى الشفاء وخدمة أبناء شعبها، تحمل جنينها ببطنها وحب أبناء شعبها في قلبها، وعلى كاهل تحمل أمانة الواجب المهني، تتحرك جيئة وعودة تتحدى وهنها وضعف جسدها، تشحن طاقتها من عزيمةٍ تتحلى بها وإرادة لا يمكن لكل معاجم اللغة أن تنصفها.
لكن ليس كل ذلك فحسب، فهي تأتي من منطقة "الزوايدة" وسط القطاع، تحت أصوات القصف لمستشفى الشفاء بواسطة اسعاف وأثناء مرورها تضع يدها على قلبها بأن تستهدف كما استهدف الاحتلال خمس سيارات اسعاف.
لم تقل ملامحها تعبًا عن الطبيب الحرازين وتقول: "نبذل هنا جهدًا عظيمًا، فالحالات المصابة تأتي كل عشر دقائق، التحدي الأكبر وصول عائلات كاملة بين مصاب وشهيد فتعلن حالة الطوارئ وتبدأ الأسرّة بالامتلاء، بعد أن يتم فرزها على بوابة قسم الطوارئ.
ومما خفف الضغط على الأطباء وقت العدوان أن وزارة الصحة قامت مؤخرا بتوسعة قسم الطوارئ بمستشفى الشفاء، وزاد عدة أضعاف عن مساحته السابقة، وقسم إلى الطوارئ للحالات الطفيفة وقسم للحالات المتوسطة وقسم عناية مركزة، ويحتوي على أسرّة ومستلزمات طبية جديدة.
يتجه نظرها نحو أسرة العناية المركزة، ترافق صوتها نبرة قهر "ما يزيد العبء هنا هو ارتكاب مجازر ووصول أعداد كبيرة بحاجة لعناية فائقة، حتى أن صور الدماء تبقى تلاحقنا في نومنا".
من أكثر المشاهد العالقة بذاكرتها، صورة لطفلة استشهد كل أفراد عائلتها ظلت الممرضة أبو سويرح تتابع حالتها وتتفقدها كأنها ابنتها حتى جاء شخص من أفراد عائلة الطفلة وتولى مسؤولية مرافقة الحالة.
لم تكترث الممرضة لحملها بالشهر السابع، وتعتبر بقائها على رأس عملها "جهادًا وواجبا".
الطبيب "حمام" يبدأ عمله باختبار "صعب"
في قسم طوارئ الحالات الطفيفة، بدأ طبيب الطوارئ ياسر حمام الذي توظف قبل شهر بوزارة الصحة باختبار "صعب" بخوض تجربته الأولى في اسعاف المصابين.
يأتيك صوته من خلف كمامة طبية يرتديها قائلاً: "التجربة الأولى تعد تحديا، فأنت تتعامل مع حالات طارئة وتتصرف بناء على معلوماتك الطبية، وتتأقلم مع ظروف نقص المستلزمات والإمكانيات المحدودة والعدد الكبير من الإصابات، إذ يمر على كل طبيب نحو 60-80 مصابًا يوميًا".
لم يخلو المشهد من متطوعين للإسعاف والطوارئ، كان محمد الشيخ وهو من مجموعة بدر الكشفية التابعة لهيئة الأعمال الخيرية أحد فريق متطوعين يبلغ عدده 25-30 متطوعا من تخصصات طبية وغير طبية.
وضع الشيخ امرأة قام بنقلها من مكان استهداف على أحد الأسرّة وبدأ الاطباء مهمتهم في تشخيص الحالة والتعامل معها، لم تكن تجربة تطوعه الأولى إذ شارك في اسعاف المصابين عام 2008 وباقي الحروب الإسرائيلية العدوانية.
رغم كل مظاهر المآسي في الحروب السابقة، إلا أن ما شاهده في العدوان الإسرائيلي الحالي لم يرهَ من قبل، يحرك صوته بعض المشاهد "نشاهد كمية هائلة من الإصابات، أحياء كاملة يتم استهدافها ومعظم الإصابات بين متوسطة وخطيرة ولا نجد إصابات طفيفة".
للتو وصل الدكتور حمزة البراوي (27 عاما) وهو يخوض تجربته الثانية في إسعاف المصابين بعد تجربة أولى في عدوان الاحتلال على غزة في مايو/ أيار 2021، اكسبته خبرة في التعامل مع الإصابات والحالات الخطرة.
في أول يومين للعدوان عمل البراوي لمدة 48 ساعة متواصلة، وارتاح لمدة يوم وعاد لإمضاء يومين متتالين لحظة إعدادنا التقرير، يقول بعد أن تجهز للبدء في متابعة حالات في أسرّة العناية بقسم الطوارئ: "نتعامل مع حالات قاسية وصعبة، وكم كبير من الشهداء وإصابات بمختلف أنواعها وهذا يشكل ضغطا على المنظومة الصحية وإرهاقا كاملا لها".
يمتلئ صوته قلبه بالتحدي: "سنبقى صامدين في تقديم خدماتنا، وهو جزء من الجهاد بعلمنا وخدماتنا. تجربتي الثانية قاسية ومختلفة عن التجربة الاولى التي كانت فيها عدد كبير من الشهداء لكن ليس بمثل هذه الحرب الجنونية، التي يستخدم فيها الاحتلال أسلحة محرمة دولية وهو ما نراها على أجساد الجرحى عند التشخيص فنلاحظ أن معظم الحالات هي خطيرة وهذا يدلل على عنجهية الاحتلال وبشاعته".
وصل إسعاف، واستقبل الممرضون والأطباء حالة شاب مصاب برأسه، كان شقيقه محمد سويسي يضع يده على قلبه ويحبس أنفاسه، قبل أن تهدأ تلك النبضات مع استقرار الحالة ولف رأسه بالجبيرة، ويعده "نجاة من الموت".
وفي العناية المركزة يجلس عبد الله فارس وهو مصري الجنسية هو وأطفاله الثلاثة الذين أصيبوا بقصف إسرائيلي لحي الشيخ رضوان، أدى لوفاة والدته.
قدم فارس من القاهرة مطلع أكتوبر الحالي لزيارة أهل زوجته وهي الزيارة الأولى لغزة، وكأنه قدم لدفن أمه على تراب فلسطين، دفنت كل وثائق السفر وهواتفه مع الصواريخ، وبقي يتلقى الرعاية بمستشفى الشفاء.
وأنت تغادر مستشفى الشفاء، لا تتوقف الإسعافات عن القدوم لإنزال المصابين ثم تغادر لإحضار آخرين ولا تتوقف الطائرات عن القصف فتأتيك الأصوات من كل مكان، ترى عدة سيارات اسعاف طالها القصف مصطفة بالمشفى وشاهدة على استهداف الاحتلال للمنظومة الصحية نتج عنها استشهاد عشرة عاملين واستهداف عدة مستشفى، ورغم كل ذلك لم يخلع الأطباء رداءهم الأبيض، ووهبوا أنفسهم وأوقاتهم لأجل خدمة أبناء شعبهم في تضحية جديدة يقدمها "ملائكة الرحمة".