قائمة الموقع

الفدائي القسامي ياسر الطويل.. رباط وعبور للسياج الفاصل

2023-10-10T13:50:00+03:00
الشهيد القسامي ياسر الطويل

بلا مراسم وداع، أو وصية ختام، ارتدى ياسر الطويل (30 عامًا) ملابسه العسكرية مغادرًا إلى الرباط بعد العاشرة مساءَ الجمعة الماضية، آثار الموعد استغراب زوجته الصحافية إسراء العرعير: "مش موعدك اليوم!؟" وحاولت إقناعه بالاعتذار عن الخروج مبررةً له: "الك فترة مشغول، أقعد معنا ما شفناك"، أما هو فكان في عجلة من أمره أو لم تكن أمامه مساحة كثيرة للحوار: "مستعجل كتير"، بملامح اعتلاها الاستغراب ذكرته بمرات سابقة لم يخرج بهذه الطريقة: "كل مرة بتتجهز بهدوء، مالك!"، ثم غادر.

الثانية بعد منتصف الليل استيقظت طفلتها عبير (3 سنوات) تسأل عن والدها، ونطقت الطفلة بغير إدراك "بابا راح الجنة" على براءة الكلام منعتها أمها من إكماله.

كانت دقائق الساعة متكاسلة بالمرور على قلبها الذي أنهكه انتظار موعد صلاة الفجر، لكن زوجها لم يعد، فظنت أن أمرًا ما أخره قليلاً، إلى أن انطلقت رشقات صاروخية متتالية بعد السادسة من صباح السبت، فوقفت تتأمل مشاهد "عزة" سيطرت على قلبها وأنستها للحظات انشغالها، وزادت بفخر مع أنباء عبور المقاومين للأراضي المحتلة.

للحظة توقفت مع نفسها، وبدأت تراجع الأحداث فزوجها الذي كان يعبر إلى داخل الأراضي خلف السياج الفاصل خلال فعاليات مسيرات العودة، لا "يمكن أن تفوته هذه اللحظة، فكل حياته كان يتمنى ويعد نفسه في صفوف المقاومة لعبور السياج وخوض الملحمة هناك"، لم يذهب توقعها بعيدًا، هذا ما أكد لها لاحقًا من بعض رفاقه.

كانت العرعير تتابع الصور والفيديوهات المتتالية التي نشرها شبان ومواطنون قطعوا السياج الفاصل، بدقة تتمعن في كل الوجوه، تدقق بكل شيء، تراقب أي خبر، تنتظر أي فيديو جديد، وفي نفس الوقت تتطل بين الفينة والأخرى تطل من نافذة بيتها الواقعة بمدينة "حمد" السكنية بخان يونس عله يأتي.

بعد حالة إرهاق طوى السبت نفسه وحل الظلام، ولم يأتِ ما يبرد قلب "إسراء" التي لم ينقطع أملها بأنَّ "ياسر" سيعود، رغم إخبارها بالطريقة ذاتها التي علمت بها عائلات شهداء بارتقائهم أبنائها، بأن زوجها استشهد.

مرابط لم يعد

"ما يؤكد لي أنه كان مرابطًا فجر السبت، أنني اتصلت عليه الساعة الثانية فجرًا عندما حدثتني طفلتي "عبير" واتصلت به وكان بموقع الرباط المعتاد، فقال لي: "وكليها لله إن شاء الله الصبح بروح"، ثلم اتصلت عليه صباحا، فرد شاب وقال، إن زوجي بقي لعمل" بصوت يجرحه الفقد تروي الصحفية العرعير لصحيفة "فلسطين" ما عاشته.

وأضافت بصوت يثقله الفقد وممزوجا بالفخر: "قالوا لي، إنه عندما قطع السياج الفاصل، كبر وهلل وكان سعيدًا جدًا، كأنه يوم نصر".

إسراء التي عاشت في محافظة أخرى بعيدة عن عائلتها تحديدا بحي "حمد" السكني بمدينة خان يونس جنوب القطاع، استقلت سيارةً، ورجعت لبيت عائلتها في مدينة غزة، تحاول النجاة بابنتها الوحيدة "عبير" خوفا من تطور الأحداث هناك وحاجتها لمن يواسيها، وأثناء طريق العودة قصفت طائرات الاحتلال مكانا قريبا، أنطق طفلتها: "رني على بابا أحكيله اليهود قصفوا دار الناس. عشان يضربهم"، لم تتحدث الأم واكتفت بمسح دموعها التي أسقطها كلام طفلتها.

لم يكن السياج الفاصل غريبًا على زوجها، فـ "ياسر" من أكثر شباب مسيرات العودة وصولاً لتلك الأماكن، وفي كثير من المرات اعتمدته وكالات إعلامية كمصور لها للمشاهد داخل السياج الفاصل، لما تمتع به من جرأة وشجاعة كبيرة. وفق وزجته

على صفحتها الشخصية نعت "إسراء" زوجها بكلمات مليئة بالتسليم بقضاء الله وقدره فكتبت في رسالة النعي: "في سبيل الله ثم في سبيل الأقصى زوجي الحبيب أبو المجد. سعيت لها وجاهدت وحقق الله لك ما تتمنى مقبلاً غير مدبراً، إنغماسياً مثخناً في أعداء الله، عزائي أنك في ضيافة أكرم الأكرمين. لقاؤنا في الفردوس الأعلى".

الجرح الأول

قبل خمسة أشهر أيضًا نعت "إسراء" طفلتها الرضيعة مريم (7 أشهر) توفيت بلا أعراض صحية مسبقة أثناء نائمة، في مشهد تلقى زوجها صدمته في أثناء وجودها بالعمل: "عندما حاول ايقاظها، لم تستيقظ، فاتصل بي باكيًا أتذكر صوته المفزوع: "مريم بتتحركش"، وانتقل بها للمشفى، وعندما وصلته وجدته يتكئ على الجدار وفي حالة انهيار، حزنًا على طفلتنا التي كانت بمثابة روحه حتى قبل ذهابه للرباط قال لي: "اشتقت لمريم".

عن فقدهم "مريم"، تصفها بأنها "روح والدها"، ويأتي لها صوته من جيوب الذاكرة "كان يقول لي: "وفاة مريم كسر قلبي وتركت فراغا كبيرا".

في عام "حزن" مر على إسراء، لم يخلو من لحظة "فرح" عندما تغلب فيها زوجها على ألم فقد ابنتهم "مريم"، وتقدم لاختبار الثانوية العامة رغم انقطاعه عن الدراسة منذ 12 عامًا، ونجح في فرحة ضمدت جراحهم، وكان يستعد يوم السبت للتسجيل بالكلية الجامعية، اليوم ذاته الذي غادر ولم يعد.

تعود جذور ياسر إلى بلدة "يبنا" ولد بمحافظة رفح وكبر على معاناة المخيم، كان من الأطفال الذين يلقوا الحجارة على جيش الاحتلال، وانتقل لغزة وكان من أوائل الشبان الذين شاركوا في رجم الاحتلال بالحجارة والمولوتوف عام 2015 قبل انطلاق مسيرات العودة، وعند انطلاقها عام 2018 انتقل إلى العيش بمحافظة خان يونس، ولعب دورًا بارزًا في المسيرات الشعبية.

في صفحه الشخصية على فيس بوك يضع صورة له برفقة الشهيد الثائر محمد قدوم، وكتب في ملف التعريف معرفًا نفسه: "اهتف بهم انا من جند محمد بايعته فيما يريح ويتعبُ، رايتها خفاقة، وسيوفها سفاقة، وجنودنا لا تغلبُ".

تصف "إسراء" زوجها أنه "من زمان الصحابة" إنسان "حنون" بشكل غير عادي، يحب صلة الرحم، ملتزم بصلاة الفجر وقيام الليل والتسبيح والاستغفار، لا يفارق خاتم التسبيح أصابعه.

في جلسة أصدقاء، وثقها أحدهم بمقطع فيديو ألقى بيت شعرٍ قال فيه صاحب اللحية الكثيفة والوجه المدور والابتسامة العريضة تشع من عينه ثورة ومن صوته التحدي: "لنأخذن بحد السيف مطلبنا، حتى يقال لنا يا نعم ما صنعوا، فلسنا نرى للذل نحني رقبانا وإن كسروا بالظلم اعناقنا كسرا.نحن بنوا من لقنوا كل معتدٍ دروسا في التاريخ شابت لها ذكرا".

لم يكن ياسر بالنسبة لزوجته شريك حياة فقط، بل كان شريك عمل في لحظات عديدة، فهي تجيد المونتاج عبر الهاتف إضافة لعملها الصحفي المتنوع وهو يجيد التصوير به، فاجتمعت مهارة الزوجين في أعمالٍ عديدة وثقا خلالها قصص شهداء مسيرات العودة، ومعركة سيف القدس".

جلس الزوجان معًا مساء الخميس، كان الحزنُ يسيطر على قلب زوجها، بعدما أجهضت "إسراء" حملها مؤخرًا وهي في شهرها الثالث، وكان يأمل ياسر أن يأتي "مجد" الذي يُكنى باسمه، لتتراكم طبقات الحزن في قلب "إسراء" وبقيت "عبير" تزهر في خريف حزن يعصف بقلبها.

اخبار ذات صلة