صدحت أصوات المآذن بالأذان إلا مسجد "اليرموك" ظل صامتا لأول مرة منذ عام 1974، فلم يبقَ منه سوى حجارة متناثرة تراكمت فوق بعضها البعض بعدما سوته طائرات الاحتلال الحربية مساء الأحد الماضي بالأرض، ونجت مئذنته لتبقى شاهدة على جريمة التعدي على حرمات الله، وهدم المساجد.
دمرت الصواريخ الإسرائيلية المسجد المكون من ثلاثة طوابق، وغيرت معالم المنطقة الواقعة قرب رمزون الغفري بشارع الجلاء، وكل واجهات البيوت المحيطة به تغيرت ملامحها، جدران تهشمت، وزجاج تكسر، وأبواب تطايرت من أماكنها وتركت البيوت مفتوحة، وسيارات تدمرت، هكذا بدى المشهد لحظة وصولنا هناك.
كان بلال سلامة (38 عاما) وإخوته الثلاثة، يواصلون إخراج بعض الأغراض اللازمة والضرورية من منزلهم الواقع قبالة المسجد ولا تزيد المسافة الفاصلة بين بابه والمسجد عن عشرة أمتار، وكان أكثر البيوت المتضررة بمحيط المسجد.
قصف مفاجئ
أثناء متابعة سلامة نشرة الأخبار وتطورات الأوضاع، دوت أصوات صواريخ متتالية قريبة بعد وميض توهج بالمنطقة، ثم تناثرت الحجارة وافترش الدخان المكان، لدقائق انحجبت الرؤية وتعالت صرخات أطفاله الثلاثة، وضج الخوف في المنزل المكون من ثلاث طبقات ويسكنه نحو ثلاثين فردًا.
بوجه وملابس مغبرة، يقف سلامة أمام منزله، يقفز مشهد القصف أمامه ليروي لصحيفة "فلسطين" قائلا: "كان القصف مفاجئا، بدون سابق إنذار شعرنا أن البيت يتفجر، وبعد انقشاع الدخان والغبار بدأت الرؤية تتضح، وجدت ابنتي تنزف من أثر زجاج تطاير على رأسها، ونزلنا جميعا لتفقد أبي وأمي اللذين يسكنان في الطابق الأرضي ويفتح بابه مباشرة على المسجد".
تحرك قليلا وتوقف عند باب منزل والده المغطى بالردم والحجارة بالكامل، يكمل: "كما ترى لم نستطع الدخول من هنا، فاتجهنا من الخلف وأحدثنا فتحات بالجدران، وبدأنا بإزالة الردم حتى وصلنا لأبي وأمي وبعض الأطفال الأحفاد كانوا عالقين تحت الحجارة التي تطايرت عليهم من المسجد".
يحرك صوته بقية التفاصيل: "توقعت أن ننقل أبي شهيدا، كونه يغسل كلى، ومريض قلب وسكر وضغط دم، لكننا وجدناه على قيد الحياة يتنفس بعناية الرحمن، وكانوا كلهم بخير، ونقلناهم إلى المشفى، ثم عدنا لأخذ بعض الملابس الضرورية التي تلزمنا".
لم يعد منزلهم والكثير من المنازل المحيطة بالمسجد صالحة للعيش، فإضافة للفتحات التي أحدثها القصف بالجدران والنوافذ، طال القصف خطوط المياه بالمنطقة والبنية التحتية، وتسربت المياه من الخطوط الناقلة.
ولد سلامة عام 1986 بينما أنشئ المسجد عام 1974، فترعرع بجواره وكبر فيه وعلى صوت أذانه، وكان في تلك الفترة المسجد الوحيد بالمنطقة، خرج أجيالا كثيرة وحفظة للقرآن الكريم، وقادة من بينهم وزير الداخلية الأسبق والقيادي البارز في حركة المقاومة الإسلامية حماس الشيخ سعيد صيام.
شهد سلامة أحداثا كثيرة دارت في المسجد عندما كان يحاصره الاحتلال في الانتفاضة الفلسطينية الأولى "انتفاضة الحجارة" ودائمًا كانت قنابل الغاز تنهال على ساحة بيتهم الذي كان مسقوفا بـ"الأسبست" آنذاك، حتى قررت العائلة مغادرة المكان، ثم غلبها الحنين للمكان والمسجد، وعادت بعد عشرين عاما من العيش بعيدا عنه، لتشهد جريمة أكبر من التي عايشتها في الانتفاضة.
ملتقى اجتماعي
وتميز مسجد "اليرموك" بأنه يربط الناس اجتماعيا، وتقام بداخله حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وتعقد الأنشطة الاجتماعية، وتتربى فيه الأجيال، وبعد هدمه لا يعرف سلامة أين سيصلي، فأقرب مسجد إليه يبعد عنه مسافة كيلومتر تقريبا.
يقلب كفيه بصوت ممزوج بالحسرة يرثي حاله وهو ينظر للأمام بعيون ممتلئة بالحزن ووجه شاحب مغبر: "أمامك مشهد خراب ودمار، المسجد ذهب والبيت، أكثر شيء مؤلم أننا لن نسمع صوت الأذان هنا".
على الجهة الأخرى من المسجد، يجلس الحاج جهاد جعرور يراقب بعيون حسيرة جرافته المدمرة بفعل القصف وبيته وأدواته المستخدمة في قطاع البناء التي أصبحت كلها بلون رمادي، يقلب كفيه ويرثي حاله: "كما ترى كل شيء راح، البيت والأدوات، ربنا يعوضنا".
اشترى جعرور جرافته عام 1995 وباتت مصدر دخل العائلة منذ تلك الفترة، لا يصدق ما حل به، يقول عن لحظة القصف: "كنا نجلس في بدرم المنزل، وفجأة سمعنا القصف واهتز البيت وافترش الدخان المكان".
ومسجد اليرموك واحدا من عدة مساجد قصفها الاحتلال ودمرها في إطار عدوانه المتواصل على دور العبادة، متجاوزا كل الخطوط الحمراء.
ومن المساجد التي استهدفتها مقاتلات الاحتلال الحربية المسجد الغربي بمنطقة الشاطئ، ومسجد طيبة في بيت لاهيا، ومسجد الدعوة شمال مخيم النصيرات، ومسجدا الياسين والسوسي بمخيم الشاطئ، ومسجد الأنصار شمال القطاع، ومسجد الحبيب محمد غرب خان يونس.