ذات يوم كانت السياسة الفلسطينية تصدر حصراً من "فوّهة البندقية"، ثم جاء حين من الدهر أخذت معه بالتلوّن، وكانت أولى رقصاتها المُبتَدعة ما غرّد به ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، بكلمات منسوبة إلى شاعر الفلسطينيين محمود درويش الذي قيل إنه أسهم مع آخرين في كتابة خطابه آنذاك، بالتحديد تلك العبارة التاريخية الأشهر التي عَلِقت في الأذهان وفي الرأي العام التي تقول: "إنني جئتكم بالبندقية في يد، وبغصن الزيتون في اليد الأخرى، فلا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدي".
وبعد ذلك سارت السياسة الفلسطينية في مروج من الزيتون الأخضر التي فارقت البندقية وطوت صفحتها. كانت ذروتها في المفارقة بليغة، عندما قاد أحد منظّري وفلاسفة "السلام" الفلسطيني (سري نسيبة) مسيرة تأييد وإسناد للوفد الذاهب إلى حضور مؤتمر مدريد في خريف 1991. وبينما كان الجمهور الذي تم حشده لهذا الغرض وهو يحمل أغصان الزيتون، وقد خرج من ساحة إحدى المدارس الخاصة في رام الله، قد صادف دورية حرس حدود إسرائيلية، واعتقد من اعتقد من هذا الجمهور بأنّ زمان السلام قد حلَّ (مع أن الانتفاضة كانت وتائرها آخذة بالدحرجة من موجة إلى موجة أخرى أشد وأعتى)، إذا بهؤلاء المبتهجين بالسلام يُقبلون على سيارة حرس حدود حاملين أغصان الزيتون وينْوُون تزيين السيارات العسكرية بها!
وهؤلاء "المطبّلون" لم تكن تسمح لهم سذاجتهم -أو إن شئت أوهامهم- بأن تكتشف أن قواعد الاشتباك المعطاة للجنود لم تتغير ولم تتبدل -وهي لا تزال بهذا اليوم لم تتغير ولم تتبدل- فما كان من عناصر حرس الحدود إلا أن قاموا بأداء دورهم المعهود وهو قمع كل من يقترب جسدياً منهم أو من آلياتهم، وقد انهالوا بالعصي على وجوه ورؤوس وأطراف "السلاميين الفلسطينيين"، حَمَلَة أغصان الزيتون!
وأذكر يومها أنه جاء أحد زملاء الدراسة في الجامعة وقد تنفّخت عيناه وتورّمتا، وعندما سألناه: ماذا جرى لك؟ أخبرنا والحسرة تأكله أنه كان من بين جموع المطبّلين والمزمّرين في تلك الواقعة، فما كان من أحد ألمع أساتذة العلوم السياسية الفلسطينيين إلا أن علّق بالمثل الفاضح "هيك مضبطة، بدها هيك ختم"! وهنالك اليوم من هؤلاء المطبّلين الغافلين أو المُستَغفلين الكثيرون ممن هم جاهزون للحضور وقت الاستدعاء لممارسة مثل هذه الطقوس، فالسياسة عندنا ما زالت تمارس بكل هذه الخفّة والغوغائية والحَمِيَّة القبلية!
اقرأ أيضًا: أخطأنا وغيرنا كذلك فمن يُصلح خطأنا؟!
اقرأ أيضًا: المقاومة تعيد للقضية اعتبارها
ولن أحدّثك هنا عمّا رواه "أبو مازن" في كتابه "طريق أوسلو"، ولا الآخرون الذين كتبوا مذكراتهم عن تلك اللحظة البائسة وهم يصوّرون حال زملائهم المبتهجين -وهم في الطائرة- للمشاركة في طقوس ومراسم احتفال توقيع اتفاق أوسلو في واشنطن (13 أيلول/ سبتمبر 1993). لن أحدّثك أيضاً عن كلمات الرثاء الحارقة التي كتبها محمود درويش عن "الكمنجات التي تبكي الذاهبين إلى الأندلس- مدريد" في ديوانه الذي سجّل مرثية الذهاب إلى مؤتمر مدريد "أحد عشر كوكباً على آخر مشهد أندلسي".
ولقد مرّ حينٌ من الدهر على مَنْ أخذ يفقّهنا ويُتحفنا بحكمته الأثيرة ونظريته المبتكرة بأن "البندقية تزرع والسياسة تحصد"؛ فعند النظر إلى هذا الحصاد البائس على مدى خمسة عقود ماضية، يتساءل المرء عن أي نوع من الزروع تلك التي زرعناها؟ هل فعلاً كنا نزرع حقولنا بزرع مفيد ونافع أم كنا نزرعها بالشوك والعلقم؟! فقديماً قالوا: "من يزرع الشوك لا يجني العنب!". عند التفتيش والمراجعة لما كنا زرعناه في عمّان ثم في بيروت، ولاحقاً في تونس وأخواتها من العواصم، فماذا سنكتشف؟ هل كنّا حركة تحرير وطني كما زعمنا أم كنّا حركة حروب أهلية؟! هل كنا حركة طهرية تليق وترتفع إلى مستوى قضيتنا الحقة والعادلة أم كنا مضرب المثل في "فساد مستشرٍ" أصبحنا مدموغين به في العالمين؟! وعندما ذهبنا إلى طاولات المفاوضات وموائد الدول هل كنّا جديرين بقضيتنا أم أنّنا تمتعنا بأداء هابط ومخزٍ وذهبنا مَضحكة للأمم؟! ماذا فعلنا بأنفسنا وبقضيتنا؟ وما نصيبنا الشخصي المتعلق بنا فيما آل إليه انطفاء وهج قضيتنا في أروقة السياسة الدولية؟!
لعل محمود عباس (أبو مازن) بصفاته ومناقبه السياسية "الفذّة" التي يتمتع بها داخلياً وخارجياً؛ فهو الضعيف (الذي لفتت درجة ضعفه انتباه الرئيس "الليبرالي والمثقف" أوباما)، والعاجز، وعديم الحيلة، و"المستسلم النموذجي".. لعله هو دون غيره من يختزل واقع وحال السياسة الفلسطينية العليلة في العقدين الأخيرين، وهو المسؤول بدرجات كبيرة عن حالة الانسداد والفلترة والتعثر والتقويض.
فالسياسة التي يعتنقها الرجل تعيد اجترار الفشل من دون كلل أو ملل، كما أنه مثابر على افتقاد الشرعية الشعبية الداخلية. ونجده لا يبني مع شعبه إلا الخصومة والمناوَأة والمجافاة، وهو لا يتوقف عن مفارقة ومعاكسة طموحات وتطلعات شعبه -هذا الشعب الذي لا يزال يسطّر رجاله ونساؤه أروع صفحات البطولة ويجترح العجائب- ويقف أبو مازن بكل صلف وعناد ضد مظاهرة المقاومة التي هي علامة الهوية الأساسية للشعب الفلسطيني، وهو لا يحتقرها ويعاديها ويلاحقها وينزع الشرعية عنها ويحطّ من قيمتها فحسب، بل هو يُحافظ على خطّه السياسي النابذ والمناوئ لها.
كما يُحافظ على طقوسه الخطابية السنوية في الأمم المتحدة التي يتسوّل فيها "دولة"، وهو في سبيله ذاك لم يرتكس من خندق التحرير الوطني الذي كان مرابطاً فيه ذات يوم، إلى حيث الاكتفاء بالمطالبة السياسية "خذ وطالب" على ما جرت عليه قيادة موسى كاظم الحسيني التاريخية قبل ثورة 1936، وهو أيضاً لم يكتفِ بالهبوط إلى ما مثّلته "النشاشيبية السياسية" من تعامل حذر مع الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، بل نجده يقطع أشواطاً كبيرة في التورط والتآمر على شعبه ومقاومته بالتعاون المادي والمعنوي مع العدو.
ويبني محمود عباس الكثير من توجهاته السياسية على قدرته في إحداث تأثير أمام حائط مبكى الأمم المتحدة ومؤسساتها التي هي إجمالاً في طور الأفول، تنتظر ميلاد نظام عالمي ودولي جديد. مع ذلك، يحافظ على طقسه السنوي في الوقوف أمام ممثلي الدول، ويتّخذ من خطاباته السنوية تلك برنامجه السياسي! والغريب أنه لا يملّ ممارسة هذا الطقس الذي غدا مستهلكاً وفاقداً لقيمته، بل غدت خطاباته مجالاً للتندر ومؤشراً على البؤس الذي بلغته الممارسة السياسية الفلسطينية.
ربما سيسجل التاريخ أنه لا يوجد زعيم لشعب من الشعوب فاقد لدليله وتائه إلى هذا الحد كأبي مازن الذي يُعلن عن حيرته وفقدان دليله وتيهه؛ ليس في ميدان معركة عسكرية فيها الضغوط والإكراهات، إنما يُمارس ذلك على الملأ وفي الهواء الطلق وبكامل وعيه في المنتديات والصالات والمنابر السياسية والإعلامية على اختلافها.
وإذا كان من مهمّات القائد الرائد قومه أن يشق الأفق والطريق لشعبه ومن يقودهم، فإن أبا مازن يعتقد أنه يفعل ذلك من خلال منع شعبه من الثورة والانتفاضة، باعتبارها طريقاً لا تأتي إلا بالتعب والعَنت والشقاء، وهو يسعى من خلال ذلك -كما يعتقد- إلى تجنيب شعبه الويلات المجانية.
والمفارقة أن سياسته العوراء والحولاء والعمياء هذه برهنت خطلها وخطأها المرة تلو الأخرى، لا بل إن أطماع العدو زادت، والأنكى أن الويْلات التي يُوقعها في شعبنا أصبحت تتلطّى خلف سياسات ومواقف أبي مازن ومنظومته السياسية والأمنية والإدارية المتعاونة والوكيلة.
إن أبا مازن المصرّ على إعادة اجترار الفشل هو علّة علل بؤس السياسة الفلسطينية، وإن استمرار وجوده على رأس الحالة الفلسطينية يُنذر ليس فقط بمراوحة المكان إلى أجل غير مسمّى، بل مراكمة الأزمات لأن الطبيعة تأبى الفراغ، والتدافع المكبوت اليوم سينفجر في لحظة ما بصورة قيح وحديد يفقأ الدمامل!
باعتقادنا أن التحرر مما يمثّله أبو مازن هو خطوة أولى من أجل تغيير دفّة السياسة المُتعَبة. هذا لا يعني بالضرورة الصدام الخشن معه ومع سلطته -كما أشرنا- ولكن ليس أقل من رفع الغطاء السياسي والوطني والقانوني والمعنوي والعمل على عزله، وهذا سلوك بالإمكان فعله، وهو خطوة مهمة على طريق طيّ صفحته السياسية السيئة والبائسة والكارثية.