يستيقظ المقدسي محمود صالحية من الساعة الخامسة فجرًا مع ابنتيه (آية وياسمين) قبل موعد ذهابهما إلى المدرسة، ليودعهما يوميًا -منذ بداية العام الدراسي- ويسرد على مسامعهما بعض التعليمات لتعملا بها في أثناء طريقهما وعبورهما الحواجز الإسرائيلية.
يقول لصحيفة "فلسطين": "زادت اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي كثيرا في مدينة القدس، وأثرت في جميع الفئات، وخاصة الفتيات اللواتي يذهبن إلى المدارس، فيتعرضن للتفتيش في أثناء ذهابهن وعودتهن، وعبورهن الحواجز".
تسرق الطريق بسبب تلك الإجراءات الأمنية المشددة من وقت الفتاتين آية (17 عامًا)، وياسمين (12 عامًا) ما يقارب ثلاث ساعات، فتصلان مدرستهما الساعة الثامنة، وخلال ذلك الوقت يتبعهما والدهما ويطمئن عليهما عبر عدة اتصالات على هاتفهما المحمول الذي تحملانه معهما أينما توجهتا في شوارع القدس.
اقرأ أيضا: في الميدان.. المقدسيات يثبتن أنهن "أخوات المرجلة"
ويلفت إلى أن ما تعيشه الابنة الكبرى من مخاوف كبيرة كلما مرت بحاجز عسكري خشية إطلاق النار عليها بمزاعم محاولة تنفيذ عملية فدائية، كما فعل جنود الاحتلال مع العديد من الفتيات وقتلهن بدم بارد.
ويضيف: "تلك المعاناة لا تقتصر على ذهابهما، ففي عودتها أيضًا أضع يدي على قلبي حتى تخبراني أنهما قد أصبحتا في البيت، كل هذا التوتر والقلق الذي نعيشه يوميًا أثر في حياة ابنتيَّ النفسية والاجتماعية، وبت أشعر أنهما أحيانًا ترغبان في الغياب عن المدرسة بسبب تلك المعاناة".
وعند عودة ابنته آية من المدرسة تكون مكتنزة العديد من المشاعر السلبية، من بينها الخوف والتوتر بسبب ما مرت به خلال اليوم من تفتيش عند ذهابها وعودتها، ووقوفها طويلًا عند الحاجز، والصراخ والإهانة للفلسطينيين، وخاصة الفتيات اللواتي يرتدين النقاب، والطلب منهن خلعه، وتعرضها للضرب أحيانًا، وقد يتم اعتقالها.
وتعد سياسة الاعتداء على المدنيين انتهاكاً لقواعد القانون الدولي الإنساني حيث تفرض المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة على سلطات الاحتلال حماية المدنيين، وضمان تمتعهم بالحقوق الأساسية وعدم التعرض لكرامتهم أو عاداتهم أو قيمهم أو ممارساتهم الدينية، وكذلك توفير الحماية لهم من أعمال العنف التي قد تطالهم، إضافةً إلى أنها تعد انتهاكاً لحق الفلسطينيين في التجمع السلمي المحمي بموجب المادة (21) من العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية.
فقدانٌ للأمن والأمان
ولا يختلف الحال مع المقدسية الأربعينية أسماء القاق، التي تسكن في حي عين اللوزة ببلدة سلوان، إذ تعاني فتياتها مشكلات صحية، ومصنفات ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة، ومهددات بفقدان المأوى، بعد إخطار الهدم الذي وصل إليها في فترة مرض إحدى بناتها ومكوثها في العناية المكثفة، فأصيبت بالصدمة بسبب ذلك الإجراء الاحتلالي.
تقول: "إجراءات الاحتلال على المقدسيين عامة، والسيدات على وجه الخصوص أثرت كثيرًا، ووفق ما مررت به، فقد فقدت الشعور بالأمن والأمان، وكدت أصبح بلا مأوى".
ومع إيقاف قرار الهدم بسبب حادثة وفاة ابنتها المريضة، لا تزال مشاعر الخوف والقلق تطرق جدار قلبها، "فإن المعيلة الأساسية للأسرة تعاني مرض قلب، وكل ليلة تنام والدموع تملأ وسادتها خوفًا على مصير بناتها".
وتفرض قوات الاحتلال حالة من الذعر والخوف والقلق بين صفوف الفلسطينيين، فضلاً عن انتهاكها جملة من حقوق الإنسان الأساسية، إذ تقلص سلطات الاحتلال الإسرائيلي بانتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان الوجود الفلسطيني في المساحات العامة، وحرية تنقلهم بين مدنهم وفيها بأمان، ويكون وقع هذه الجرائم مضاعفاً على النساء الفلسطينيات اللواتي يزداد شعورهن بالتهديد الدائم والخطر، كما تؤكد ذلك فاطمة حماد في دراسة عن "أثر الاحتلال الإسرائيلي في أمن النساء في القدس المحتلة"، نشرتها المبادرة الفلسطينية لتعميق الحوار العالمي والديمقراطية "مفتاح".
وتضيف أن سياسة الإعدام الميداني التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الحواجز العسكرية تجعل حياة الفلسطينيين في تهديد دائم، وتهدد الأمن الشخصي، والأمن المجتمعي.
مشكلات نفسية واجتماعية
من جهتها، تتحدث الاختصاصية النفسية والاجتماعية عفاف الدجاني أن إجراءات الاحتلال وطبيعة الحياة في القدس تؤثر كثيرًا في الجانب النفسي والاجتماعي للفتيات في المدينة بطرق عدة.
وتبين أن أول التأثيرات التي تتركها في حياتهن حالة التوتر النفسي والقلق، فتعيش الفتيات في القدس تحت ضغط مستمر نتيجة التصاعد المستمر للتوتر السياسي والصراع في المنطقة، والتفتيش والسحل والضرب والاعتقال، وغيرها من الإجراءات التي لا يفرق فيها الاحتلال بين رجل وفتاة، فتزداد مخاوفهن بشأن سلامتهن الشخصية وسلامة أسرهن مع التصاعد المستمر للعنف والاعتقالات.
وتوضح الدجاني أن القيود التي تفرض على حركة المقدسيين وعزلهم عن بقية الأراضي الفلسطينية والحواجز الإسرائيلية قد تؤدي بالفتيات إلى العزلة الاجتماعية، وعزوفهن عن الذهاب للمدارس، وقلة فرصة تواصلهن مع أقرانهن من داخل المدينة وخارجها.
وتمضي بالقول: "تتعرض الفتيات في القدس لجميع أشكال العنف البدني والنفسي من جانب قوات الاحتلال أو المستوطنين الإسرائيليين، ما يتسبب لهن في إصابات جسدية وآثار نفسية خطيرة. ويشهدن كذلك مشاهد يومية للاعتقالات والاعتداءات والإعدامات اليومية بحقهن من قبل قوات الاحتلال دون أي مبرر، ما يعكس حالة القمع"، لافتة إلى أن تلك المشاهد يمكن أن تولد شعورًا بالعجز والغضب والخوف.
وتظهر دراسة أخرى عن أثر الانتهاكات الإسرائيلية في حق الفتيات في القدس، أعدتها "مفتاح" بالشراكة مع مركز الدراسات النسوية، تعرض العديد من الطالبات المقدسيات للتحرش والمضايقات في أثناء توجههن للمدارس.
وتفيد الدراسة بتعرض 53.3% من الفتيات للتحرش على الحواجز العسكرية، في حين تعرض 23.3% منهن للتحرش من جنود جيش الاحتلال في شوارع البلدة القديمة، ونسبة 50% تعرضن لمضايقات مختلفة على الحواجز العسكرية أو في الشوارع من الجنود والمستوطنين.