قائمة الموقع

"السعدي" وريث عائلة مقاومة و"عرعراوي" مزارع حصد الشهادة

2023-09-22T10:00:00+03:00
فلسطين أون لاين

كان مخيم جنين يضج بأصداء الاشتباكات، وصوت انفجار هز ساحة المخيم الساعة الثامنة مساء الثلاثاء، تابع أحداثه سكان المخيم إلا والدة الشاب محمود السعدي، فكان اتصال الإنترنت منقطعًا في بيتها، فغيبت عن الحدث، قبل أن تتلقى اتصالًا هاتفيًا من إحدى قريباتها تخبرها أن نجلها "أصيب"، إلا أن قلب الأم حسم الخبر: "ابني شهيد، صحيح؟"، وأمام إلحاح الأم اعترفت لها المتصلة: "رحمه الله، الله يصبرك… شهيد".

تسللت قوة إسرائيلية خاصة إلى مخيم جنين في ساعات المساء الأولى، فاكتشفها المقاومون وخاضوا اشتباكًا مسلحًا معها بعد محاصرتها، فأرسل الاحتلال تعزيزات عسكرية مستعينًا بطائرة انتحارية انفجرت بجسدي المقاومين القساميين محمود علي السعدي (23 عامًا) ومحمود خالد العرعراوي (24 عامًا) فارتقيا شهيدين بساحة المخيم في أثناء خوضهما اشتباكهما الأخير.

وقف خالد عرعراوي أمام جسد نجله "محمود" وهو يلقي نظرة الوداع الأخيرة، كان عناق الأب لنجله مليئًا بالشوق ومغمسًا بطعم الحرمان، فلم يروِ أسبوع أمضاه معه ظمأ شوقه له بعد 63 يومًا غيبته فيها سجون السلطة عن أولاده وأرضه الزراعية التي سهر نجله الشهيد على ريها وحرثها في غياب رب الأسرة.

حب المقاومة

من عائلة خرجت الشهداء والأسرى، ورث محمود السعدي حب المقاومة، واقتدى بشهداء عائلته، ادخر مالاً من مصروفه وعمله واشترى بندقية خط بها طريق مواجهة الاحتلال، وعبر فيها عن حبه ووفائه لفلسطين ولمخيمه.

وفي طريق دفاعه عن المخيم كان قريبًا من الموت عندما تعرض لإصابة خطرة في فبراير/ شباط الماضي برصاصة قناص اخترقت جسده واستقرت بجسد صديقه محمد أبو الصباح الذي ارتقى شهيدا، فعاد لأمه كمن "يرجع من الموت"، خاض معركة أخرى مع الألم، كان سلاحه فيها الصبر.

وقبلها اعتقل لدى الاحتلال مدة عامين، وسجن عند السلطة 75 يومًا تعرض خلالها لشبح وتعذيب ومعاملة قاسية.

في مقابلة صحفية معه نشرت للسعدي يروي ظروف اعتقال قاسية عاشها في سجون السلطة: "مكثت ثمانية أيام بلا فرشة أو غطاء، في أجواء باردة، وكنت أتوضأ وأنا مقيد، وكذلك الحال عندما أريد الصلاة، فشعرت باكتئاب من شدة التحقيق في أشياء لم أفعلها، كنت أبقى أربع ساعات مشبوحًا، لم أكن أشعر بقدمي من شدة الألم والشبح".

في بيت يضج بالمعزين كانت أمه تحاول التماسك وهي تلقي نظرة الوداع على جثمانه، في مشهد كانت توقن أنها ستعيشه وستتجرع مرارته، فنجلها يصر على نيل الشهادة التي كانت هدفًا يراه من منظار بندقيته.

"الكل بحبه بالمخيم" غادرت تلك الكلمات قلبها ترافقها دموع هربت من حواف عينيها، أما والده الذي كان يقف على حافة قبر نجله بعد مواراته في الثرى فاستجمع صلابته أمام جرح الفقد قائلًا بملامح يحفر الحزن مخالبه فيها: "استشهد ابني مرتاح البال، رضا قلبي وربي عليه. اشترى بندقيته من ادخاره الشخصي وظل يقاوم حتى آخر اللحظات".

الشهيد المزارع

صباح الثلاثاء، اصطحب محمود عرعراوي شقيقه كمال (17 عامًا) -الذي أصيب بعينه وفقد نظره برصاصة قناص إسرائيلي خلال اجتياح المخيم في 3 يوليو/ تموز الماضي، محاولاً التخفيف من الآثار النفسية لشقيقه الذي لم يعد يرى ألوان الحياة بفعل جرائم الاحتلال- إلى مطعمٍ، وأمضى الشقيقان وقتًا مميزًا وعادا مع ساعات الظهيرة.

كانت والدة محمود تجلس في منزلها حينما تلقت اتصالًا هاتفيًا من إحدى قريباتها، وكانت مرتبكة حينما فاجأتها بالسؤال: "صحيح الخبر؟ محمود استشهد؟" ورغم أن الأم التي لم تعلم تفاصيل ما يجري بالخارج كحال والدة الشهيد السعدي نفت لها الأمر: "لا ما حدش خبرنا" لم تستطع تحمل نار الصدمة بعد إغلاق المكالمة، فانطلقت نحو المشفى لتجد نجلها مضرجًا بدمائه شهيدًا.

يثقل الفقد صوتها وهي تتحدث لصحيفة "فلسطين" قائلة: "كنت على وشك بناء شقة سكنية له في منزلنا، ومن ثم أبحث له عن عروس، لكن حادثة إصابة شقيقه كمال أجلت الأمر، على الرغم من أننا جلبنا الحجارة وكل لوازم البناء التي بقيت على حالها على باب المنزل".

أب في سجون السلطة

الخميس الماضي أفرجت السلطة عن خالد عرعراوي والد محمود بعد اعتقال دام 63 يومًا في سجونها، كان سبب الاعتقال حسب ما تقول زوجته، هو انتقاده لمشاركة مسؤولين بالسلطة في تشييع شهداء اقتحام الاحتلال لمخيم جنين في 3 يوليو/ الماضي، تعلق بقهر: "لم يقل سوى: أنتم ماذا فعلتم لجنين؟ واعتقل عليها".

خلال اعتقال والده المزارع، تسلم نجله الأرض وسهر على ري محصول الخيار الذي يعد مصدر دخل العائلة، وكان يخرج من الفجر ويغادر في ساعات المساء، ولم يكن يتوانى عن المشاركة في التصدي لاقتحامات جيش الاحتلال كلما اعتدوا على مخيم جنين.

لدى عرعراوي ثلاثة أشقاء ذكور وشقيقتان، ورغم أنه يسكن بمنطقة أحراش بعيدة عن المخيم، فإن قلبه كان معلقًا بالمخيم، "كنت أمنعه لأنني أخشى استشهاده، وفي كل مرة كان يذهب برفقة شقيقه كمال للمخيم" تقر وهي تستجمع قواها.

ورغم أن الشاب أشرف أبو خميس من مدينة نابلس، فإن روابط الصداقة جمعته بالشهيد محمود عرعراوي منذ طفولتهما، عندما كان الأول يأتي لزيارة بيت عمته بالمخيم وهي والدة الشهيد مجدي عرعراوي أحد المتفوقين بالثانوية العامة، وقتلته قوات الاحتلال خلال اقتحامها للمخيم في يوليو/ تموز الماضي.

بقلق تابع أبو خميس الأخبار القادمة من ساحة المخيم، يقول لصحيفة "فلسطين": "اعتدنا أن تقتحم قوات الاحتلال المخيم في منتصف الليل، وعندما وصلت إلينا أخبار عن اقتحام المخيم الساعة الثامنة، بدأت بمتابعة الحدث وتفاجأت باسم صديقي محمود شهيدًا بانفجار طائرة إسرائيلية مفخخة، بعدما حاصر هو والمقاومون القوات الخاصة".

قابل أبو خميس صديقه قبل أسبوعين، وكان شاهدًا على جدال احتدم بين عرعراوي وبعض الأقارب الذين كانوا يحاولون ثنيه عن هذا الطريق، تطفو تفاصيله على حديثه لنا: "كانوا يقولون له اترك البارودة؛ لأن أمك ستتحسر عليك، فقال لهم: "حالنا مثل حال بقية الشهداء" ورفض فكرة التخلي عن طريق المقاومة، مؤكدًا أنها خياره الوحيد".

تأخذه ذاكرته لأبعد من ذلك، مستحضرًا ذكريات طفولة جمعتهما معًا، وأيامًا جميلة مستقرة في الذاكرة "كنا نلتقي في أرضهم الزراعية، فكان والدي صديق والده، وتوطدت الصداقة وكبرنا عليها".

اخبار ذات صلة