أولادنا لا يموتون، أولادنا الذين يواجهون عدونا، هم أحياء عند ربهم يرزقون، شهداء اصطفاهم الله، واختارهم من بين آلاف الشباب، هذا الإيمان الراسخ في قلوب الفلسطينيين، هو السلاح الفتّاك الذي لا تقدر عليه الصهيونية العالمية، وهو السلاح الذي نواجه به نحن الشعب الفلسطيني، أعتى أسلحة الدمار، ورغم قلة حيلتنا، فإن مصدر قوتنا، هو سلاح الإيمان بالله، وأننا أصحاب الحق، وأن أولادنا الشهداء، هم رسلنا إلى السماء، وهم الشفعاء لنا يوم القيامة، حين نقف بين يدي الله.
ولقد لاحظت من خلال متابعة أعراس الشهداء في الضفة الغربية، أن أهلنا في جنين ونابلس يستعجلون في دفن الشهداء، ويوارون جثامين الشهداء ـ في أحيان كثيرة ـ بعد العصر، وليلاً، وبعد ساعات معدودة من إعلان نبأ ارتقائهم، وهم بهذا لا يعطون لأهل الشهيد فرصة كي يستوعبوا الحدث، ويكفكفون دمعة الحزن، ولا يعطون لجثمان الشهيد فرصة، كي يجفف بعض دمائه في البيت الذي ترعرع بين جدرانه، ولا يعطون ـ بسرعة غرس الشهداء في الأرض ـ لعشرات آلاف الشباب الفرصة للمشاركة في التشييع.
وفي قطاع غزة لا يستعجلون في غرس الشهداء في التراب، يؤخرون التشييع حتى اليوم التالي، ولا سيَّما إذا كان موعد الشهادة بعد العصر، أو في المساء، في غزة يؤجلون الدفن حتى اليوم التالي، ويصير التشييع من المساجد، وبعد صلاة الظهر، وقد جرت هذه العادة منذ انتفاضة الأقصى 2000، وصار من المتعارف عليه أن تشييع جثامين الشهداء، سيتم بعد صلاة الظهر الجامعة في المسجد، وللأسباب التالية:
الأول: تحشيد أكبر عدد من الجماهير للمشاركة في تشييع الجثمان، فالشهادة مدرسة.
اقرأ أيضًا: العربي الفلسطيني في الشعر العبري
اقرأ أيضًا: الضفة الغربية على خطى قطاع غزّة
الثاني: كي لا يطوى جثمان الشهيد في لفائف التراب، قبل أن يستلهم إخوانه ورفاقه من الشباب موعظة الحياة، وعظمة الشهادة.
الثالث: كي يتواصل التفاعل الجماهيري مع عظمة الشهادة أطول فترة زمنية ممكنة.
وقبل 21 سنة، بتاريخ 7/8/2002 ارتقى على تراب خان يونس الشهيد حسام ابن الشيخ الداعية أحمد نمر حمدان، وطاف مكبّر الصوت في شوارع المدينة ومخيمها، ينادي على جماهير الشعب الفلسطيني، أن تشييع جنازة الشهيد حسام سيتم بعد صلاة العصر.
تساءلت مع صديقي أنيس زيدان: لماذا التسرع في تشييع جثمان الشهيد؟ لماذا لا يترك الجثمان في الثلاجة حتى الغد، ليصير التشييع بعد صلاة الظهر؟
ذهبنا إلى بيت الشيخ أحمد نمر حمدان، وبعد أن قدَّمنا له واجب العزاء، ناقشناه بالعقل والمنطق، وطرحت عليه السؤال التالي: لم العجلة يا شيخ؟ لماذا لا يؤجل التشييع حتى الغد؟ ليصير تكريم الشهيد بما يليق به من مشاركات جماهيرية؟
لم يجب الشيخ أحمد نمر، التزم الصمت، وقد انطلقت الحناجر من حوله بعدَّة إجابات عفوية وانفعالية وبريئة، وكلها تتحدث عن سرعة الدفن.
واصلت حديثي المباشر مع الشيخ أحمد نمر: ألم تكن أنت يا شيخنا على رأس المشيّعين لمواكب عشرات الشهداء في خان يونس؟ أليس لعوائل الشهداء الذين شاركتهم الحق في أن يشاركوك تشييع جثمان ولدك؟
وماذا تقول يا شيخ عن أصدقائك ومحبيك من غزة وجباليا ورفح، وكلهم رغبة في المشاركة بتشييع جثمان ولدك؟ فلماذا تحرمهم من الأجر يا شيخ؟
وهل أنت مؤيد لإشعال نار الانتفاضة؟ أم مع إخماد أوارها؟
ولا تنس يا شيخ أحمد، أن حسام بعد الشهادة لم يعد ابنك لوحدك، لقد صار ابن فلسطين كلها!
انتبه الشيخ أحمد نمر لمضمون حديثي، وقال: كلامك صحيح، ولكنك تأخرت، فقد نادى مكبّر الصوت في شوارع المدينة؛ أن موعد التشييع بعد صلاة عصر اليوم.
قلت: مكبّر الصوت نفسه، يعاود المناداة على الناس، أن موعد تشييع جنازة الشهيد يوم غدٍ، وبعد صلاة الظهر.
هزَّ الشيخ رأسه بالموافقة، ليشارك في اليوم التالي عشرات آلاف المشيعين من مختلف مدن ومخيمات قطاع غزة.
ملحوظة: في معركة سيف القدس ارتقى اثنين من أحفاد الشيخ أحمد نمر حمدان، رحمهم الله جميعاً.