هزيمة 1948 و1967 ليست هي النكبة، ولكن النكبة الحقيقية وخسارة الحرب هي توقيع هذا الاتفاق المشؤوم (وكالات)
بعد مرور فترة كافية من الزمن على المشاريع السياسية، يجب أن تخضع للمراجعة والتقييم لاستخلاص العبر، وتقويم الأخطاء، وتعديل المسار إذا اقتضى الأمر. واتفاقية أوسلو، بعد 30 عاما من توقيعها، ليست استثناء، بل على العكس، فإن الزمن في حسابات القضية الفلسطينية أكثر حساسية من أي قضية أخرى، إذ يستمر الطرف الصهيوني في تنفيذ مشروعه ويعمل من دون هوادة لتدمير مقومات الهوية السياسية الفلسطينية والعرقلة أمام الفلسطينيين وحقهم في دولة مستقلة. إذًا، وبكل موضوعية عندما نقوم بتقييم اتفاقية أوسلو بناء على الأحداث الفعلية على الأرض، والتداعيات التي أثرت في القضية الفلسطينية، نخلص إلى ما يأتي:
1. . قديما قيل: "يمكنك أن تُهزم في معركة أو أكثر، لكن لا يجوز أن تخسر الحرب".
لقد خسرنا المعركة عام 1948، وكذلك عام 1967، وعام 1982. ولكننا لم نخسر الحرب مع الكيان الصهيوني، فعلى المستوى الشعبي الوطني، منذ ثورة البراق عام 1929 وحتى آخر شهيد في جنين أو نابلس أو غزة، لم يتراجع شعبنا لحظة عن إصراره على القتال والمقاومة والتمسك بحقه الكامل في وطنه ومقدساته. وبمعنى آخر، لم يستسلم شعبنا ولم يقبل بالهزيمة رغم كل التضحيات، ورغم كل المؤامرات، سواء تلك التي يعلمها أو التي لا يعلمها. وهو مدرك أن هذا الكيان الصهيوني الناشئ لا يملك أي شرعية، سواء تاريخية أو قانونية، للبقاء على أرضنا.
ولكن اتفاق أوسلو هو الذي حقق لـ"إسرائيل" هذا الاختراق الإستراتيجي ومنحها شهادة لشرعية وجودها، في وقت لم تكن تملك فيه أي أوراق أو وثائق تثبت حقها في أي شبر من أرض فلسطين. حتى قرار التقسيم عام 1947 -الذي منح الفلسطينيين نحو 45% من الأرض- لم يكن مستندا قانونيا، لأنه رفضه الفلسطينيون والعرب، كما أن الأمم المتحدة -التي تبنت القرار- ليست صاحبة الأرض حتى تقرر في منحها لأي طرف.
حتى اعتراف الدول بالكيان وقبول عضويته في الأمم المتحدة لم يكن يمنح الكيان أي شرعية للسيطرة على الأرض أو الشرعية السياسية، فقد كان مشروطا بشرطين: أولهما قيام دولة فلسطينية، والثاني عودة اللاجئين إلى ديارهم التي هُجِّروا منها بالقوة، وهذا ما لم يتحقق حتى تاريخه؛ ومن ثم، فإن شرعية الكيان باطلة وفق القانون الدولي.
اقرأ أيضًا: الموبقات السبع لاتفاق أوسلو
اقرأ أيضًا: اتفاقية أوسلو.. ثلاثون سنة في ظل الخطيئة!
وعلى الرغم من ذلك، فإن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بقراري 242 و338 في الجزائر عام 1988، وتحويل ذلك إلى وثائق مكتوبة في أوسلو عام 1993، هو ما ثبت شرعية الكيان وأسقط حق الفلسطينيين في 78% من الأرض، وجعل كل حقوق الفلسطينيين قابلة للتفاوض. إن من وقّع أوسلو تعامل كسمسار مَنح كل الأملاك وسجلها في "الطابو" لمشترٍ عرضي من دون موافقة صاحب الأرض الأصلي.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ذهب محمود عباس إلى الأمم المتحدة عام 2012 لطلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة على حدود عام 1967 المتفاوض عليها، متجاوزا وضعية القدس في القانون الدولي، الذي يعدها منطقة متنازعا عليها (شرقيها وغربيها)، بناء على قرار التقسيم. تنازلات مجانية، طبعا، من دون أي مقابل أو ضمانات. وعليه، فإن هزيمة 1948 و1967 ليست هي النكبة، ولكن النكبة الحقيقية وخسارة الحرب هي توقيع هذا الاتفاق المشؤوم.
2. أوسلو أسست لهذا الانقسام البغيض المدمر الذي نعيشه اليوم.
فجعلت جزءا من الشعب مواطنين من الدرجة الأولى (وفق المعايير الصهيونية). فمثلا، بعد أوسلو، فُرض على الأسرى عند الإفراج عنهم من سجون الاحتلال توقيع وثيقة تنبذ الإرهاب وتلتزم بالسلام، وهذه الوثيقة تحدد المواصفات المثالية للمواطن الفلسطيني الصالح، في حين يُعد الجزء الآخر "إرهابيين" مطلوبين داخل الوطن وخارجه (وفق المعايير الصهيونية أيضا). ثم ثبتنا ذلك في وثائقنا الوطنية، فألغينا من الميثاق المواد التي تتعلق بتحرير فلسطين التاريخية والكفاح المسلح.
ليس عيبا أن تختلف آراؤنا حول مشروع أو اتفاقية، ولكن الأهم هو كيفية حسم الخلافات. الجميع يعلم وقرأ كيف تم حسم الأمور لتمرير هذه الاتفاقية عن طريق الضغط والترهيب والتدليس. المسار التفاوضي ظل محتفظا به في السر، حتى عن الوفد الفلسطيني المفاوض باسمنا في واشنطن برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي. وتم الإعلان عن الاتفاقية قبل أيام من توقيعها، مما أثار صدمة لدى عديد من القيادات والمتابعين. ومن يتابع تاريخ تلك الفترة أو يقرأ مذكرات من شاركوا فيها، مثل أبو علاء قريع وأبو مازن وممدوح نوفل وأحمد عبد الرحمن وغيرهم، سيلاحظ أنهم -حتى وإن كان بأثر رجعي- يعترفون بأنهم قد استهانوا بالموقف الإسرائيلي المتطرف وإمكانية إحداث إزاحة فيه.
في مثل هذه المحطات، لو كنا أمام قيادة حريصة على شعبها ورأيه، وتهتم بتحصين الاتفاق وطنيا، كان يجب اتخاذ القرار عبر استفتاء شعبي شامل للداخل والخارج، أو من خلال مؤسسات تمثيلية حقيقية، وليس عبر مسرحية تدعي الديمقراطية وهي في الواقع هزلية وعبثية.
3. أوسلو فتحت الباب لكل "الموبقات السياسية" سواء على المستوى الوطني أو العربي والإسلامي.
صحيح أن هناك كانت اتفاقية كامب ديفيد المصرية واتصالات عربية سرية مع الكيان، ولكن كل هذه لم تمنح الكيان أي شرعية أو حق، خصوصا في الملف الفلسطيني. اتفاقية كامب ديفيد حلّت المشكلة المصرية فقط ولم تفرض علينا أي شروط. وحتى هذه الاتفاقية، بقيت محصورة ضمن سقف سياسي نخبوي، واستمرت العلاقة مع الكيان على المستويات الشعبية والحزبية والأكاديمية والنخبوية كجريمة ومن المحرمات السياسية.
قبل أوسلو، لم يجرؤ أي من العرب على الاعتراف بالكيان، وكان عدد الدول حول العالم التي تعترف بمنظمة التحرير يتجاوز عدد الدول التي تعترف بالكيان. لا يمكننا أن نقاوم التطبيع وندينه ونحذر من مخاطره خلال النهار، ثم نتواصل في الليل مع الصهاينة ونقوم بالأمور التي تعتبر محرمة. لن نتوقع أن يتوقف الجميع عن التواصل مع الكيان والبحث عن طرق التقارب معه، فببساطة "لن يكون أحد ملكيا أكثر من الملك".
4. أوسلو، مثل كل الاتفاقيات الدولية، عمليًا لن تكون ملزمة إذا لم تستند إلى قوة على الأرض تضمن تطبيقها.
على المستوى الدولي، حلفاؤنا لم يستطيعوا نصرتنا في وجه الغطرسة الصهيونية والانحياز الأميركي، فأكثر من بيان نظري لم يمنع الخطوات العملية على الأرض التي حطمت المشروع الوطني الفلسطيني، أما خصومنا أو حلفاء العدو فقد قدموا له كل الدعم السياسي والمادي لاستكمال مشروعه السياسي وشطب القضية الفلسطينية.
هل يعقل أن تصل بنا السذاجة إلى أن نسلم أوراق الحل للأمريكان؟ في حين أنهم هم الراعي الحصري والحامي الأكبر للكيان، من يقرأ مذكرات المفاوضات يدرك أن الوفود الأميركية -معظمهم يهود صهاينة- كانوا أكثر تطرفا من بعض الصهاينة، وهذا ما ذكره كثيرون ممن عايشوا هذه الفترة، حتى أن ياسر عرفات "أبو عمار" -رحمه الله- كان يرفض لقاء المبعوث الأميركي دينيس روس، أو كان يقسو عليه حين يلقاه، باعتبار أن سلوكه كان صهيونيا أكثر من الصهاينة.
إن العلاقات الدولية هي "إدارة القوة"، ولا مكان في هذه الغابة للقيم والأخلاق وحتى القانون، إلا ما يخدم مصالحهم. أين كانت القيم والقوانين عند غزو العراق وتدميره؟ أو في أفغانستان؟ أو الصومال؟ أو سوريا؟ أو التآمر على ثورات الربيع العربي، التي كانت صرخة من شعوب تطلب الحرية والكرامة والديمقراطية التي تروج لها أميركا في كل مكان؟
5. الاحتلال قتل "أوسلو" وما بُني عليها من أوهام وسراب.
لقد قتل الاحتلال اتفاقية أوسلو قبل أن تنطلق، باستخدام جميع الأدوات المتاحة؛ بدأ الأمر عندما ارتكب متطرفوهم مذبحة في الحرم الإبراهيمي على يد باروخ غولدشتاين في فبراير/ شباط 1994، بعد أشهر قليلة من توقيع الاتفاق. ولم تتوقف المأساة حتى باغتيال موقع الاتفاق رئيس وزراء إسرائيل إسحق رابين في نوفمبر/شباط 1995. بالإضافة إلى ذلك، أقرت قيادة الاحتلال حالة قانونية وسياسية تجعل من المستحيل على الفلسطينيين بناء كيان سياسي مستقل، أو تحقيق أي من الأهداف الأساسية، مثل عودة اللاجئين. وعملت القيادة على ضمان أن هذه الكينونة الناشئة ستبقى مرتبطة بالاحتلال، ويمكن التخلص منها إذا تجاوزت أضرارها فوائدها.
حتى الراحل أبو عمار -رحمه الله- الذي وقّع الاتفاقية معهم واجه حصارا، وتم التخلص منه عندما أصبح عائقا أمام المشروع، وبدأ في محاولات لتغيير مساره. ومن هنا، لم يكن من المستغرب أن نرى مشهدا يظهر فيه شبان مسلحون من الأجهزة الأمنية الفلسطينية وهم يحيطون بسيارات الاحتلال لضمان خروجها بسلام من داخل المدن في الضفة الغربية المحتلة. ورغم الصدمة التي أحدثها هذا المشهد، فإننا قد نشهد الأيام القادمة أحداثا أكثر خطورة وإذلالا. وبمعنى آخر، "إسرائيل" وحلفاؤها، وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية، سيواصلون جهودهم حتى يتم تكوين قوة مشابهة لـ"جيش لحد".
6. أوسلو أجهضت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وعبدت الطريق أمام الاحتلال.
عمليا قبل أوسلو، كان شعبنا الفلسطيني يقود انتفاضة شاملة أربكت حسابات الاحتلال وخلطت أوراقه، وحشرته في الزاوية داخليا وخارجيا، لكن اليوم شعبنا منقسم؛ ليس فقط بين غزة والضفة، بل إن شعبنا في الضفة يعيش في كانتونات معزولة عن بعضها بعضا.
قبل أوسلو، كان عدد المستوطنين لا يتجاوز 100 ألف مستوطن بأعلى تقدير، والآن الحديث يدور عن نحو 600 ألف مستوطن بأقل تقدير، وبالنسبة نفسها تضاعفت المساحات التي تسيطر عليها المستوطنات.
شرقي القدس يتم تهويده على قدم وساق وطرد سكانه الفلسطينيين، والمسجد الأقصى توجد خطط لتقسيمه زمانيا ومكانيا على طريق السيطرة الكاملة تمهيدا لبناء الهيكل.
الثروات مسروقة والمقدرات منهوبة، الأمن مفقود والبيوت مهدومة، الفقر مستشر والبطالة في تصاعد مستمر، باختصار القيادة الصهيونية الأكثر تطرفا تنفذ بكل جدية خططها لحسم الصراع لصالحها.
7. أوسلو منافع وهمية مجتزأة مقابل تنازلات كارثية.
قد يتحدث البعض عن فوائد أوسلو، وما حققته من عودة بعض أبناء شعبنا إلى وطنهم، أو وجود القيادة على أرض صلبة داخل الوطن ينطلقون منها لاستكمال المسيرة، وخاصة في ظل الظرف الدولي في حينه، بعد تدمير العراق في حرب الخليج الأولى وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفرد الولايات المتحدة في حكم العالم.
حتى لو كان ما يقال صحيحا بشكل جزئي، من دون الدخول في تفاصيل نقاش تلك المرحلة، نقول باختصار: "من لا يستطيع الزواج بالطرق المشروعة، لا يحق له تحليل الزنا، مهما كانت مبرراته". وكذلك في حالتنا، فإن بعض المنافع لا تبرر التنازل عن الحقوق الأصيلة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره وحقه في أرضه ومقدساته وعودته.
هذا تقييم عاجل ومختصر لهذه الكارثة الوطنية، والمقام لا يتسع لأكثر من ذلك، ولكن السؤال الأهم هو: ماذا بعد؟
لا حل من وجهة نظرنا إلا التنصل من هذه الاتفاقية الكارثية، والعودة إلى الشعب والالتحام به، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية الجامعة بحيث تكون ممثلة للجميع من دون استثناء. كما يجب الاتفاق على مسار وطني جامع متوافق عليه، معتمد من جميع أطياف شعبنا في الداخل والخارج، وفي الوقت نفسه، يجب تحييد التدخلات الخارجية قدر الإمكان.
كخطوة وسيطة، إلى حين إنجاز مشروع الإصلاح المؤسساتي، يمكن اعتماد قيادة وطنية مؤقتة تمثل الكل الوطني، تكون هي صاحبة القرار. ولعل صيغة الأمناء العامين هي صيغة مناسبة، إذا تم تفعيلها ومؤسستها وعدم تركها لحكم الفرد أو الحزب الذي قد يتحكم فيها.
هذا المسار، الذي يمكن تسميته "خطة الإنقاذ الوطني"، هو السبيل لحماية مشروعنا الوطني، ولا يستطيع أي أحد على وجه الأرض تجاوز هذه الحالة الوطنية المتماسكة والمستندة إلى الحقوق المشروعة.