منذ صيف عام 2007م حتى ربيع هذا العام 2017م، كانت "إدارة الصراع" هي السلوك السائد، أي عدم محاولة حسم الصراع سلباً أو إيجاباً تماماً، والمراهنة على حل يأتي وحده لاحقاً.
وكان المَعلم الأبرز لذلك، إبقاء الحكومات التي كلّفها رئيس السلطة بعد الانقسام على مد غزة بجزء من احتياجاته، أي القيام بجزء من مهام الدولة. وذلك لاعتبارات ربما منها تقليص معاناة الشعب هناك، وتأكيد قيام الحكومة بمهامها، ومنها أيضاً ألا تكون حركة حماس المصدر الوحيد للأمن، والخدمات، والوظائف، فتسيطر على كل شيء. فكان الاستمرار ببعض الوظائف، جزءا من استمرار النفوذ السياسي، الذي قد يترجم أيضاً بخلق حالة تمرد أو رفض في القطاع. وفي البداية كانت حماس تتردد وتتحفظ على السماح باستلام الأموال من الضفة وتريد التحكم بها. مع الوقت اتضح أنّه لا يمكن الاستغناء عن الموارد الآتية من خارج القطاع. وبالتالي تم السمّاح مثلا لمحمد دحلان، القيادي السابق والخصم اللدود لحماس، بالبدء بالنشاط في القطاع، منذ ما لا يقل عن خمسة أعوام (2012)، وبلجان عمل مشتركة مع حماس. واتضح بالمقابل أن أي رهان على انهيار أو تمرد في القطاع غير ممكن، وحتى أن موقفا حادا تماماً وإلى النهاية من قبل مصر ودول عربية أخرى، وحتى (إسرائيل)، ضد حركة حماس غير ممكن.
كل هذه الأمور أخذت بعين الاعتبار، لكن ثمة شيء أكبر وأهم من المصلحة الشخصية والحزبية وأهم من التعويل على شخصيات ولاعبين إقليميين أو دوليين، وهو القضية الفلسطينية ومستقبل الشعب الفلسطيني وبالذات معاناة أهالي قطاع غزة، وقد اتضح لرئيس حركة حماس الجديد في غزة، يحيى السنوار، أن لا دحلان، ولا مصر، ولا أي ترتيب سيعوض ما كانت تقدمه السلطة، وأن الجهات الإقليمية لن تتخطى تماماً منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة، ورئاستهما. كما أنّه يقول علناً على الأقل، إنّه تم إدراك أنّ عدم المصالحة، يمنع بلورة مشروع وطني. ومن هنا بدأت حماس تقدم التنازلات وصولاً لمصالحة تنهي المعاناة في غزة، وتسمح بالدخول للقيادة الفلسطينية، (المنظمة والسلطة).
لذا تولدت قناعة لدى أطراف الانقسام تقديم أولوية الدولة، على أي عامل خارجي، وأهميتها كضمان للحياة والأمن. والواقع أيضاً أن أهم الثغرات والمخاوف الموجودة تتعلق أيضاً بمدى إيمان الأطراف المختلفة بالدولة، بديلا من الفصيل، وللمصلحة الشخصية، دون أن يلغي هذا الحقيقة المرة أن الدولة غير قائمة، والاحتلال مستمر.
ولعل أهم دليل في علم السياسة على استقلال الدولة يتمثل في سيادة واحدة كاملة غير منقوصة، لذا الجميع أمام اختبار حقيقي بصدق النوايا تجاه تحقيق المصالحة والخضوع لسلطة واحدة وسيادة واحدة بأنها الجهة الوحيدة التي تمتلك حق استخدام القوة، وتنظيم السوق والتجارة، والخدمات، والعلاقات الخارجية وعدم السماح لأي طرف أو حزب التطاول عليها معتقداً ربما بأنه لسبب تاريخي أو ديني أو فكري أو سياسي هو الأحق بذلك، وهذا سيعمل على إضعاف السلطة أو الحكومة أو الدولة وتصبح "طرطورًا" وهو ما يرجعنا إلى العهد الذي سبق الانقسام في قطاع غزة أدى إلى انفلات أمني.
لعل أهم حدث ساعد في تحقيق المصالحة هو إعلان حماس وثيقتها الجديدة في 1 أيار 2017م، وكان واضحًا أن هناك مراجعات فكرية تمت في الحركة لتبني وجهات نظر أكثر براغماتية ومواءمة للواقع السياسي بالتجاوب المطالب الرئيس عباس بحل اللجنة الإدارية وتسليم الأمن للحكومة وتسهيل أعمالها ومهامها في قطاع غزة، صحيح أن داخل حماس وداخل فتح من لا يريد المصالحة، لأسباب منها الشخصية عدم الثقة والقبول للآخر أو مصالح شخصية. فمهما بلغت الأعذار لا يمكن تحقيق المصالحة إلا بنجاح الحكومة في تسلم مهامها كاملة وحل جميع المعيقات للمصالحة برفع العقوبات الأخيرة التي فرضت على قطاع غزة وإنهاء معاناة المواطنين.