يستبدُّ الشوق بقلب الحاجة جميلة التي منعها ظرفها الصحي من زيارة ابنها الأسير محمد (43 عامًا) منذ أربع سنواتٍ خلت، فيما يقف المنع الأمني حائلًا أمام زيارة والده وأشقائه له، ما جعلها تتنسم أي خبرٍ عنه تنتظر "اتصالًا" من أهل أي أسير معه في السجن، أو آخر محرر يصلها ليروي عليها حال ابنها محمد أبو طبيخ وآخر أخباره.
فذاكرة "أم محمد" تحمل معاناة مرت بها منذ اثنين وعشرين عامًا هي "عُمر اعتقاله" حتى اللحظة، سبقتها معاناةٌ مماثلة عندما حرمه الاحتلال من إكمال دراسته الجامعية في جامعة "بوليتكنك فلسطين" في الخليل، حيث اعتقله عامًا وثمانية أشهر ثم أفرج عنه لتتلقفه سجون السلطة الفلسطينية لمدة نصف عام.
بعدها اندلعت انتفاضة الأقصى وقضى "محمد" الكثير من الوقت مطاردًا حتى حاصره الاحتلال في أحد المباني في قرية "برقين" غرب جنين واعتقله في 27 يوليو 2022 بعد اشتباكٍ معه أدى لإصابته في يده.
ومثلّت لائحة الاتهام التي وجهها الاحتلال في حينه لـ"محمد" عامل قلق لعائلته حيث اتهمه الاحتلال بالمشاركة في أعمال الانتفاضة وإرسال "استشهاديين" للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، قضى 100 يوم تحت تحقيق قاسٍ مع التركيز على إيذاء يده المصابة بغرض نزع اعترافات منه.وتضيف والدته بأسى: "ثم أوقعوا بحقه حكمًا قاسيًا لمؤبديْن مدى الحياة وخمسة عشر عامًا، وبعدها لم يسمحوا لنا بزيارته أربع سنين متواصلة لم نره سوى أثناء محاكمته فكان هزيلًا متعبًا تبدو عليه علامات التعب".
ولم تكن تلك السنوات الأربع سهلة أبدًا على عائلة "محمد" حيث انقطعت أخباره عنهم، "عندما سمحوا بالزيارة، كان الإذن لي فقط، أما والده وشقيقه وشقيقاته، فمنعوا من الزيارة، لفترات طويلة حيث لا يسمح لهم بزيارته إلا كل عدة سنوات مرة".
رحلة شاقة
وكغيرها من أهالي الأسرى فإن رحلة الزيارة شاقة جدًا ومريرة إذ كانت تضطر للتنقل بين سجون عدة، وفي الوقت ذاته فإن الحصول على تصريح لا يعني بالضرورة أنها سترى ابنها، ففي كثير من الأحيان تخضع لتحقيق مكثف وتُجبر أيضًا على أنْ تعود أدراجها أحيانًا أخرى.
تقول أبو طبيخ بأسى: "لا يوجد شيءٌ سهل في حياة الأسير وذويه، فإجراءات الاحتلال مذلة في الزيارة، وعتمة السجن وصعوبة الأوضاع فيه، وعسر التواصل مع ذويه وعدم قدرتنا على إدخال الملابس اللازمة، والحرمان من التعامل مع مقصف السجن".
اقرأ أيضًا: أسير من جنين يدخل عامه الـ21 في سجون الاحتلال
وأشد ما يعاني منه الأسرى "الإهمال الطبي" حيث تغزو الأمراض أجسادهم وهم في "عز شبابهم" وتتفاقم بسبب تجاهل الاحتلال لمعاناتهم فـ"محمد" يعاني الآن من التهابات في المعدة والأمعاء، وأزمة صدرية تزداد وضع صعوبة في الأجواء الحارة.
أما شقيقه "أحمد" فيعاني الأمرّين من جراء "المنع الأمني" الذي يقف سدًّا منيعًا بينه وبين شقيقه منذ اعتقاله، "لا يسمحون لي بزيارته إلا مرة كل ثلاث وأربع سنوات، رفعتُ قضية في محاكمهم ودفعت مبالغ طائلة للمحامين وحتى الآن لم يستجيبوا لي بالسماح لي بحقي الطبيعي بزيارة شقيقي كوني قريبه من الدرجة الأولى".
مشقة الزيارة
ولا تقف المعاناة عند أحمد، فوالده لا يزور شقيقه بشكل منتظم ولا يسمحون له إلا كل عدة سنوات مرة، بعد أن غزت الأمراض جسده المسن (76 عامًا)، ووضعه الصحي صعبٌ للغاية لكنه يحلم بأن يسمحوا له بزيارة شقيقي حيث كانت آخر زيارة أثناء جائحة كوفيد-19.
ويتابع أحمد: "يصر والدي على الذهاب إلى الزيارة ولو زحفًا على يديه، فقد أضناه الشوق والهم والتفكير في حاله، خاصة أن والدتي أيضًا لا تستطيع زيارته بسبب وضعها الصحي، أما شقيقاتي فيسمح لهم الاحتلال بين الحين والآخر بزيارته لكن محمد يرفض أن يأتيْن إليه خشية عليهن من مشقة الزيارة".
ويمضي بالقول إن التشديدات التي فُرضت على أسرى الجهاد الإسلامي عقب حادثة "نفق الحرية" (الهروب من سجن جلبوع)، جعلت محمد يخشى على شقيقاته من مضايقة الاحتلال لهن أثناء الزيارة، "لتبقى العائلة تتنسم أي خبر عنه مع أي محرر أو أهل أسير، حيث كان ابن عمي أسيرًا لمدة ثلاث سنوات، وقد طمأننا بعض الشيء على وضع محمد".
وما يسلي قلب عائلته أن "محمد" يكافح قضبان سجنه بالعلم حيث يستثمر وقته فحصل على دبلوم خدمة اجتماعية من جامعة الأقصى، وتابع حتى تخرج بشهادة البكالوريوس من جامعة الأقصى في تخصص التاريخ، ثم بكالوريوس من جامعة أبو ديس تخصص علوم سياسية، وحاليًا يعكف على دراسة الماجستير.
وتمكن من إتقان اللغتين الإنجليزية والعبرية، ونشرت له دار الشهيد نعمان طحاينة للنشر والتوزيع ومؤسسة مهجة القدس، كتابين يوثق كل واحد فيهم قصة 42 أسيرًا خلف القضبان ويحمل اسم (درب الصادقين) حكايات جهادية من بطولات المقاومة الفلسطينية، وله ثلاثة أجزاء.