الصورة التي نشرتها حركة حماس لنائب رئيس مكتبها السياسي صالح العاروري، مرتديًا بدلته العسكرية في أثناء إجرائه اتصالًا هاتفيًّا من مكتبه الذي تزيّن بالعلم الفلسطيني، وإلى جانبه بندقيته المتطورة من نوع "M16"، جاءت لتعبر عن رد المقاومة الحازم تجاه التهديدات الرعناء التي أطلقها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو باغتيال العاروري.
حركة حماس التي اعتادت طيلة السنوات الماضية إعلان ترحيبها بعمليات المقاومة ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، دأبت مؤخرًا على إعلان تبنيها الصريح لعمليات المقاومة، التي باتت مؤرقة للاحتلال في الضفة المحتلة، كما صعّدت من لغة تحدّيها لحكومة نتنياهو اليمينية، إذ أكدت من خلال تصريح صحفي نشرته عبر موقعها الرسمي أن تهديدات نتنياهو باغتيال العاروري "جوفاء"، وأنها "لم ولن تنجح في إضعاف المقاومة"، وأن " أي مساس بقيادة المقاومة سيواجه بقوة وحزم".
من الواضح بأن تهديدات نتنياهو باغتيال العاروري جاءت في إثر الفشل الذريع لجيش الاحتلال، في الحد من تطور المقاومة الفلسطينية، وانتشار خلاياها المسلحة في عموم محافظات الضفة، واستمرار سيل العمليات الفدائية الفلسطينية على مدار الساعة، وتحقيقها إنجازات ميدانية أربكت منظومة أمن الاحتلال، ولا سيما مع وصول عدد قتلى الاحتلال نتيجة العمليات الفدائية إلى "35" قتيلًا في إحصائية هي الأكبر منذ انتفاضة الأقصى، ما دفع صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية أن تصف العام الحالي 2023 بأنه الأصعب على الاحتلال.
من ناحية أخرى فإن تهديد نتنياهو باغتيال العاروري يأتي في إثر تيقّن منظومة أمن الاحتلال بالدور المعنوي المهم الذي يلعبه العاروري باعتباره الشخصية المُلهِمة، التي تعمل على بث روح المقاومة من جديد لدى جيل الشباب الفلسطيني في الضفة والقدس، علاوة على دوره الميداني في رعاية المقاومة، وإمدادها بكل عوامل الثبات والانتصار بعد سنوات عجاف عاشتها في إثر الملاحقات المزدوجة من السلطة والاحتلال، طيلة السنوات الماضية.
اقرأ أيضًا: الشيخ صالح العاروري قائد وقاهر
اقرأ أيضًا: تصريحات العاروري ورسائلها
لم يتوقف الاحتلال يومًا عن جرائمه ضد الفلسطينيين، فسياسة الاغتيالات ليست جديدة، إذ ارتكب الاحتلال العشرات من جرائم الإعدام للفلسطينيين العُزّل في وضح النهار، تارة بالرصاص الحي، وتارة أخرى بالقصف من الطائرات، فقد قتل الاحتلال منذ مطلع العام الحالي 230 شهيدًا فلسطينيًّا، من بينهم 189 شهيدًا من الضفة الغربية والقدس، و4 شهداء من الداخل المحتل، و37 شهيدًا من قطاع غزة بحسب إحصائية نشرتها وكالة سند للأنباء بتاريخ 22/08/2023م.
من جهة أخرى فإن تعمّد حركة حماس نشر صورة الشيخ صالح العاروري بالبدلة العسكرية والبندقية المتطورة في إثر تهديدات نتنياهو، إنما يعبِّر عن الاستعداد الجيد للمقاومة لخوض المواجهة العسكرية المقبلة مع الاحتلال، فقد جاء نشر صورة العاروري مُتوشِّحًا بزيه العسكري، بعد ساعات قليلة من تصريحات متلفزة للرجل، أعلن خلالها عدم اكتراثه بتهديدات الاحتلال، وأن "الشعب الفلسطيني لا ينوي الاستسلام، ولن يستسلم أو يرضى بما يفرضه الاحتلال"، هي رسالة تحدٍّ للاحتلال، وحكومة نتنياهو المتطرفة.
إن التهديدات بالاغتيال لن تثني قيادة المقاومة الفلسطينية عن طريق المقاومة، فقد قدم الشعب الفلسطيني على مدار تاريخه النضالي خيرة قادته من مختلف الفصائل شهداء في إثر جرائم اغتيال جبانة، ارتكبها الاحتلال علنًا في أوقات سابقة، ومن بينهم الشيخ أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وأبو علي مصطفى، كما ارتقى قادة أخرون في إثر جرائم اغتيال حملت بصمات الاحتلال، وفي مقدمتهم ياسر عرفات، وفتحي الشقاقي وغيرهم الكثير.
واليوم وفي ظل الضربات الأمنية المتلاحقة التي تلقاها جيش الاحتلال في إثر تصاعد العمليات الفدائية في الضفة، يبزر التساؤل الأهم حول جدية تهديدات نتنياهو، والسيناريوهات المتوقعة لتنفيذ تلك التهديدات، وردود أفعال المقاومة حيال إقدام الاحتلال على ارتكاب جريمة اغتيال معلنة أو صامتة ضد كوادر وقادة المقاومة الذين يتهمهم بالوقوف وراء نجاح العمليات الفدائية في الضفة، وإمداد ثوارها بالمال والسلاح.
وبالنظر إلى تهديدات نتنياهو المُعلنة، واحتدام الصراع السياسي الداخلي، الذي يعيشه الكيان والاتهامات بالفشل التي تواجهها حكومة اليمين المتطرف من المعارضة الإسرائيلية، وفشلها الميداني في السيطرة على الأوضاع الميدانية بالضفة، نجد أن الاحتلال قد يعتمد أحد السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: إطلاق حملة عسكرية محدودة في محافظات شمال الضفة، تشمل اقتحامات ميدانية، وارتكاب جرائم قتل، وتدمير عدد من منازل الفلسطينيين، إضافة إلى حملات اعتقال تطال أنصار المقاومة في جميع محافظات الضفة، بهدف إرضاء المستوطنين واليمين المتطرف الذي يسيطر على حكومة الاحتلال، ومحاولة نتنياهو استعادة الردع المفقود، وترميم الصورة الهشة لحكومته أمام جمهورها الداخلي، ورغم قدرة حكومة نتنياهو على تطبيق هذا السيناريو، إلا أن نجاحه يحمل الكثير من الشكوك، خاصة مع وتطور قدرات المقاومة، ونجاحها في صد العدوان في معركة "بأس جنين" مطلع يوليو الماضي، وتمدد خلاياها المسلحة في عموم محافظات الضفة، وقدرتها على تشتيت جهود جيش الاحتلال حال إطلاق أي حملة عسكرية محدودة.
السيناريو الثاني: هو إقدام جيش الاحتلال على ارتكاب جريمة اغتيال مباشرة تطال عددًا من مقاومي الضفة، ورغم أن هذا السيناريو قد يأتي كمحاولة لترميم صورة جيش الاحتلال، ورفع معنويات جنوده ومستوطنيه، إلا أن التجربة أثبتت أن المقاومة قادرة على الرد النوعي والسريع، وتنفيذ عمليات فدائية غير متوقعة لمنظومة أمن الاحتلال، يما يُسهم في تهشيم متزايد لصورة جيش الاحتلال وحكومته أمام الجمهور الإسرائيلي.
السيناريو الثالث: هو تنفيذ الاحتلال عملية أمنية، وجريمة اغتيال صامتة تطال أحد رموز المقاومة في غزة أو لبنان، وهو سيناريو تعززه شواهد عدة، من بينها تكثيف الاحتلال أعداد طائراته المسيرة من دون طيار في سماء غزة، بهدف جمع المعلومات الأمنية، ورصد ومراقبة قادة المقاومة، علاوة على كشف وسائل إعلام لبنانية عن اعتقال شبكة تجسس في لبنان عكفت على رصد مواقع حيوية للمقاومة في لبنان، ما يؤكد أن الاحتلال الذي ارتكب سابقًا العديد من جرائم الاغتيال، دون ترك بصمات واضحة، يحاول اليوم نسج بعض الخيوط، وجمع بعض المعلومات التي تساعده على اقتناص صيد ثمين، واغتيال أحد رموز المقاومة دون إعلان مسؤوليته عن الجريمة، وهذا السيناريو محفوف بمخاطر جمَّة على الاحتلال، قد تؤدي إلى تصاعد ردود الأفعال غير المتوقعة من المقاومة، وتدحرج الأحداث وصولًا إلى مواجهة عسكرية مفتوحة مع الاحتلال.
السيناريو الرابع: هو إقدام جيش الاحتلال على ارتكاب جريمة اغتيال واضحة المعالم ضد شخصية وازنة وكبيرة مثل الشيخ صالح العاروري، أو أحد رموز المقاومة الكبرى في غزة، ورغم أن هذا السيناريو يهدف الاحتلال من خلاله إلى استعادة الردع، ورفع معنويات جنده التي باتت في الحضيض، إلا أن تنفيذ هذا السيناريو يحمل مخاطر مواجهة عسكرية واسعة ومفتوحة مع الاحتلال، ربما تتضح معالمها مع تهديدات المقاومة بالرد "بقوة وحزم" حال إقدام حكومة الاحتلال على المساس بقادتها.
ختامًا: فإن قناعتنا بأن إقدام جيش الاحتلال على ارتكاب حماقة باغتيال أحد رموز المقاومة لن يُوقف تصاعدها في الضفة والقدس، كما أن استشهاد أحد قادة المقاومة ورموزها، علاوة على كونه تضحية على عتبات القدس يعتز بها قادة المقاومة أنفسهم، وأُمنية يتمنونها دون تردد، فإن هذه الشهادة ستمثل دافعًا معنويًّا كبيرًا للشباب الفلسطيني لتصعيد مقاومته بشتى الطرق والوسائل، والمضي قُدُمًا على طريق الشهادة والتحرير الذي اختاره الفلسطينيون وسيلة لطرد الاحتلال العسكري الغاشم من أرض فلسطين.