بمجرد وصول رسالة على إحدى المجموعات الإخبارية لأهالي قرية "برقة" شرق رام الله وسط الضفة الغربية المحتلة، تستنفر الشبان عصر الجمعة الماضية للخروج لصد اقتحام يشنه عشرات المستوطنين على منازل القرية، أنهى قصي جمال معطان (19 عامًا) جلسةً مع أصدقائه بين أراضي القرية لإعداد مأدبة طعام، وانطلقوا جميعًا نحو الجزء الغربي من القرية، الذي يتعرض للاقتحام.
بالتزامن فتحت البيوت أبوابها وخرج فتية وشباب ورجال القرية يلبون النداء، وصدحت مكبرات المآذن تستنفر الأهالي، وكان والد قصي أحد الذين وصلوا للنقطة نفسها التي وصلها ابنه وأصدقاؤه، وتقابلوا قليلًا قبل أن تفرقهم رصاصات عشوائية انطلقت من بنادق المستوطنين.
اقرأ أيضاً: من هو المستوطن اليهودي الذي قتل الشهيد قصي معطان في "برقة"؟
مرت لحظات قليلة وهو يقف بنفس الهيئة، ثم تعالت حناجر الجماهير وهم يحملون فتى مضرجًا بدمائه يحاولون إسعافه، سأل أحدهم: "مين تصاوب؟"، فأجاب دون أن يعرف هوية السائل "قصي معطان"، فكان ذلك كفيلًا برسم ملامح الصدمة على ملامح الأب، إذ وقف بعينين جامدتين كبقية ملامحه يختبئ الحزن خلف صمته، ثم سارع للصعود في السيارة التي أقلَّت نجله للمشفى.
فاضت روح قصي شهيدًا، وسكنت آخر أنفاسه وأغمض عينيه أمام والده الذي أطلق تنهيدة شقَّت صدره.
"الراعي" القاتل
كان خاله سلمان معطان شاهدًا على التفاصيل التي عايشها من كثب في المكان، يرويها لصحيفة "فلسطين"، بقوله: "وقعت الجريمة الساعة السادسة مساء، والقاتل هو المستوطن اليهودي (إليشع ييرد)، وهو معروف لدينا بلقب (الراعي)، كان يقود الاقتحام الذي شارك فيه أكثر من 100 مستوطن، واستخدم بندقية (إم 16) في إعدام ابن شقيقتي، وأصابه برصاصتين واحدة بمنطقة الرقبة والثانية أسفل الإبط وخرجت من الظهر".
يواصل قوله: "هاجم المستوطنون المنازل، ما دفع أهالي القرية للخروج والدفاع عن منازلهم خوفًا من ارتكاب جرائم، فهبَّ قصي كبقية الأهالي والشباب لصد الاقتحام، كانت الأوضاع أشبه بحرب بكل معنى الكلمة، فكانوا يطلقون الرصاص عشوائيًا ومباشرًا على أهالي القرية".
عمل قصي مع خاله سلمان في مصنع لتحميص "المكسرات" منذ سبتمبر/أيلول الماضي، وكان ينوي تقديم امتحانات الثانوية العامة لعام 2023، إلا أنه اختار شق طريقه في سوق العمل الذي أشغله عن مقاعد الدراسة.
خاله الذي كان يقف في بيت العزاء لحظة اتصالنا، وخلفه أصوات المعزين، كلَّف شابًا بتعليم قصي "الصنّعة" على مدار 11 شهرًا، ويوم الخميس الماضي جاءه الشاب وقال له: إن قصي تعلم كل شيء، وأنه بالإمكان تسليمه مقاليد العمل بالمصنع والاعتماد عليه.
يجرح الفقد صوته حينما استحضر آخر صورة لابن شقيقته: "سلمته الراتب يوم الخميس، وكان سعيدًا، حتى أنه اشترى جميع الأغراض التي طلبتها منه والدته، ودعا أصدقاءه على العشاء، لكن لمّتهم لم تكتمل، وكان ينوي نيل شهادة الثانوية العامة، فنال شهادة أفضل منها".
استلام المصنع
يصفه خاله بأنه شاب "أديب وخلوق وهادئ"، وكان أكثر الأبناء محبوبًا لوالديه نظرًا لكونه "أصغر إخوانه الشباب الثلاثة، إضافة لأربع شقيقات، تضيء ذاكرة خاله صورة له قبل استشهاده: "زرت بيت شقيقتي بعد صلاة الجمعة لكونها قريبة من منزلنا، وجلست معه وأخبرته أنه سيستلم المصنع كاملًا، وأوصيته بالاعتناء بالعمل والانتباه على قرشه ومستقبله، فقال لي: أنا جاهز يا خال".
وتابع بحسرة تدفقت من قلبه: "نحن في فلسطين لا يوجد لدينا حياة تكتمل في ظل وجود احتلال ومستوطنين يرتكبون الجرائم بحق أبناء شعبنا".
تعلق قصي بالأرض واختلطت دماؤه مع ترابها، كان يتطلع إلى الحياة والعمل ورسم مستقبل لنفسه كما يرسمه غيره من الشبان، فإضافة لتسلم مفاتيح المصنع وتحمل مسؤوليته وهو في مقتبل العمر كان ينخرط في دورة تعليم السياقة واقترب من الحصول على رخصة.
بعد جريمة إعدام قصي تجلَّت صورة الإجرام الإسرائيلي بدعوة ما يسمى وزير "الأمن القومي" بحكومة الاحتلال المتطرف "إيتمار بن غفير" إلى توفير الحصانة للمستوطن قاتل الشهيد، وهو ما يعده خال الشهيد "أمرًا طبيعيًا من حكومة متطرفة تعودت على ارتكاب الجرائم وتمارس دورًا متكاملًا بين الجيش والمستوطنين في الاعتداء على أبناء شعبنا، والتغطية على تلك الجرائم، ووأد أحلام الشباب".