فلسطين أون لاين

أعدمه جنود الاحتلال من مسافة صفر

محمود أبو سعن.. نجح بالتوجيهي وظفر بالشهادة

...
الشهيد محمود أبو سعن- أرشيف
طولكرم - غزة/ يحيى اليعقوبي:

تجمدت في مكانها، وتغيرت ملامحها، واحمرت عيناها، وهي تمسك هاتفها المحمول، وتقرأ بصدمة رسالة هاتفية وصلتها فجر الجمعة الماضية، تفيد باستشهاد شقيقها الشاب محمود أبو سعن (18 عامًا)، استقر الخبر كطلق ناري اخترق منتصف قلبها. 

مرت عدة دقائق وهي تتصارع مع أفكار اجتاحت قلبها، تحاول إقناع نفسها أن ما ورد في الرسالة ليس حقيقيًّا، يراقب والدها الذي استيقظ على وقع صرخة خرجت من قلب ابنته، تطورات الخبر بقلب تكويه نيران القلق.

في تمام الساعة الرابعة من فجر الجمعة، كان الشبان يرجمون قوات الاحتلال التي اقتحمت مدينة طولكرم بالحجارة في أثناء انسحابها من شارع "جورج حبش"، كان "محمود" يقف بين هؤلاء الشبان، فقابلهم جنود الاحتلال بإطلاق وابل من الرصاص أصابت إحداها ساقيه.

حاول الشاب المصاب النهوض واللحاق بالشبان الذين فرقتهم رصاصات الموت المنطلقة من فوهات بنادق جنود الاحتلال، لكن ساقه النازفة لم تستطع حمله هذه المرة، فسقط على الأرض، وكان السقوط فرصة لاقتراب جنود جيش الاحتلال منه من مسافة "صفر" وصوبوا بنادقهم تجاهه.

بينما كان يثني قدمه المصابة محاولاً تسكين الألم ووقف نزيف الدماء، أطلق الجنود عدة رصاصات على رأسه بلا رحمة أو رأفة بشاب مصاب، وانسحبوا من المكان، وتركوا والده يشاهد الجريمة التي وثقتها عدسات كاميرات المراقبة وعيون شهود العيان بصدمة وقهر يتجرع مرارتها في كل مرة عرض المشهد أمامه.

فرحة التوجيهي

قبل أسبوعين احتفل والده بنجاح ابنه "محمود" بالثانوية العامة بحصوله على معدل 70% في الفرع التجاري، وامتلأ المنزل بالمهنئين من العائلة والجيران، وعلا صوت الأهازيج، وأحضرت أطباق الحلوى، واليوم وقف في بيت العزاء لاستقبال مئات الأشخاص الوافدين للتعزية ومواساته بفقده لنجله.

اقرأ أيضاً: تشييع جثمان الشهيد محمود أبو سعن في طولكرم

بنبرة مُتألمة يروي والده آخر لحظاته مع نجله لصحيفة "فلسطين": "اتصلتُ به الساعة الواحدة فجرًا، وسألته إن كان يريد العودة للبيت أم سينام عند بيت جده إمام مسجد "الروضة"، فكل خميس يذهب هناك للمبيت ومساعدته في تنظيف المسجد؛ تحضيرًا لصلاة الجمعة".

يتحرك مشهد إعدامه أمام والده "رأيتُ مقطعًا لكاميرا إحدى المحال التجاري، تظهر كيف نزل جنود الاحتلال من الجيب واقتربوا منه بلا أدنى رحمة، وأعدموه بدم بارد من مسافة صفر".

يثقل الحزن صوته وهو يستعيد لحظات الفرح بنجاح ابنه "هو اجتهد لأجل أن يفرح قلب أمه، وفرحنا له، وكنت أتمنى أن يدرس بالجامعة، لكن الحقيقة ابني كان يريد الشهادة، حتى أنه كتب وصية في شهر أبريل/ نيسان الماضي، طلب "ألا نبكي عليه، وأن ننثر الورود على جثمانه، ويكفن بعلم فلسطين".

منذ طفولته ترعرع "محمود"، وتربى بين أروقة مسجد "الروضة"، وكان يحرص كل خميس على المبيت في بيت جده الذي يحمل اسمه أيضًا لمساعدته، فنهل من صفات إمام المسجد، من الأخلاق والصفات الحميدة والالتزام والمحافظة على الصلاة، فعرفه الناس طيبًا خلوقًا محبًّا لفعل الخير.

نظرات وداع

عصر الخميس كانت نظرات الحفيد لجده محمود الحصري أشبه بنظرات وداع، عندما رد على سؤال جده عن تخصصه الجامعي، فقال وكأنه يرى مستقبلًا آخرًا "ما لقيت تخصص أدرس فيه"، رسمت إجابته علامات التعجب على ملامح الجد، قبل أن يكمل حفيده: "بكرا مش راح اجمع التبرعات، مش فاضي أو يمكن يكون عندي عرس".

استهل الحصري حديثه لصحيفة "فلسطين" بالعودة لحواره الأخيرة قائلاً: "شعرت من كلامه أنه يريد لقاء الله، وحتى قبل الاستشهاد اتصلت عليه و"أخبرني أنه بالحارة" وإذا به على خط المواجهة، كان يشارك الشبان برجم قوات الاحتلال بالحجارة والمولوتوف.

ورغم صغر سنه تسلم "محمود" أمانة صندوق "جمع التبرعات، فضلًا عن تنظيف المسجد والاعتناء بأجهزة التبريد وحتى دورات المياه، "كان يعطيني ويتمتع بحب الخير للجميع"، كلمات حب خرجت من قلب الجد.

تابع الحصري حفيده، وحرص على تحفيزه للدراسة والمذاكرة والنجاح، يحضر في ذاكرته مشهد من أيام امتحانات التوجيهي: "طلب الذهاب للصلاة بالمسجد الأقصى في اليوم السابق لأحد الامتحانات، فرفضت ذلك ومنعته، فامتثل لطلبي ولم يذهب، وشعرت أن هدفه شيء غير الدراسة، حتى أنه يوم نجاحه وعندما احتفلنا به قال لأمه "راح تفرحي بشهادة أجمل".

ارتخى رأسه على كوفية، يكفنه علم فلسطين، وألقيت الورود من سلال حملتها نساء عائلته في أثناء إلقاء نظرة الوداع الأخيرة، يشيعه آلاف المواطنين من أهالي طولكرم محمولاً على الأكتاف وهو يزف بـ "عرس الشهادة" الذي طالما رسمه لنفسه.

9a9eba6a0e2d41bf0378e9c4f6b130ae.jpg