فلسطين أون لاين

تقرير "الكراديش".. وجبة تراثية بسيطة مذاقها شهي وفوائدها جمّة

...
الكراديش
نابلس-غزة/ أميرة غطاس:

عندما نتجول في أزقة فلسطين القديمة، نجد أنفسنا نعيش رحلة عبر الزمن، تتخللها روائح ونكهات تحمل بين جنباتها ذكريات الأجداد وتراثهم الثري. 

وفي هذه الزوايا المتدّرجة بالألوان والحيويّة، تنبعثُ من جدران المنازل والمطابخ تفاصيلُ أسرارٍ تراثيّة لا تُضاهى. من بين هذه الكنوز أكلة "الكراديش" التي تمتزجُ فيها النكهات ببساطة مدهشة تستحضر في طعمها الأصالة الفلسطينية.

و"الكراديش" عبارة عن وجبة تُحضّر من العدس أو القمح بإضافة مكوّنات بسيطة متوفّرة في كل بيت فلسطيني.

ولا تزال الحاجة ختام خضر (65 عامًا) متمسكة بإعداد أقراص العدس والقمح التي تعلمت طريقة إعدادها على يد جدتها، "أحب هذه الأكلة وأطبخها دائمًا، فمكوناتها بسيطة ومذاقها شهي وفوائدها جمّة".

وتبدأ المسنّة، وهي من قرية بيتا جنوب نابلس، بطحن حبيبات العدس أو القمح على مجرشة يدوية بكل نشاط، فتفصل العدس عن قشوره عبر "المنخل" وتستفيد من بقايا العدس الخشنة في طبخها، أما الطحين الناعم من العدس فهو المكون الأول لعمل "الكراديش".

وتكمل: "أعجن طحين العدس بالزيت الدافئ، وبعضًا من المياه، ثم أقطع البصل والبندورة والبقدونس والفلفل الحار إلى قطع صغيرة وأخلط المكونات كلها مع بعضها".

تقطّع خضر هذه العجينة إلى أقراص بحجم كفّ اليد، وفي الأثناء تكون قد أشعلت فرن الطابون، محاولةً جعل النار فيه هادئة، ثم ترمي بالأقراص إلى الفرن لتسمح لنكهاته بالتجانس ببطء.

وتصف خضر أكلة "الكراديش" بأنها "قرص علاج" يسهل الهضم ويليّن المعدة، فمكوناتها مليئة بالفوائد فالزيت بمثابة مضاد طبيعي للأكسدة، إضافة إلى البقدونس الذي يحفّز عملية الهضم والبندورة التي بدورها تعالج حموضة المعدة.

وتقول: "مع تقدم الزمن انطفأت العادات القديمة، وقلّ الإقبال على الأكلات التراثية في المناسبات المختلفة، وشهدت تلاشيًا تدريجيًا يكاد يطمس وجودها، لكن لا يزال هناك من يحبها ويشتهيها في التجمعات العائلية".

"أكثر من مجرد وجبة"

وعن طقوس صنعها، تخبر خضر بأن هذه الأكلة وغيرها من الأكلات التراثية أكثر من مجرد وجبة، فهي تجمع الأهل والأحباب في لحظات من الوحدة والتلاحم، وتنساب الضحكات والأحاديث، وترتسم البسمات على وجوه الأطفال، إذ يحمل كل واحد منهم قرصة ويقضمها بحب.

ويزداد إقبال النساء على صنع أقراص العدس في فصل الشتاء، في حين تقبل الأمهات على صناعة أقراص القمح في موسمه، كما تبين خضر، مشيرة إلى أن المجرشة اليدوية التي تستخدمها كانت قد ورثتها عن جدتها.

أجواء عائلية

في حين تقول الأربعينية إنجود عدس: إنها كانت تشاهد جدتها وهي تصنعها أقراص "الكراديش" في ظلّ أجواء عائلية دافئة.

تقول لـ "فلسطين": "كانت جدتي تبدأ بنقع جريش القمح بالماء الفاتر من المساء، وفي الصباح تقطع البصل وتعجنه مع جريش القمح المنقوع بإضافة زيت الزيتون ورشة ملح وفلفل أسود والبعض كان يطلب منها إضافة قطع صغيرة من البندورة".

تسرد عدس وهي من قرية حبلة جنوب قلقيلة، "كنا نجتمع حولها، وتبدأ أمي والعائلة بتقريص العجينة ثم خبزها، وسط همسات الجدة الحكيمة التي تروي لنا أسرار الطبخ وتشاركنا خبايا تلك الوصفات الخالدة".

وتكمل: "كنا كفتيات صغيرات نستمع بحماسٍ إلى تفاصيل تحضير الطعام، ونشعر بالفخر لأننا جزءٌ من هذا التراث الرائع الذي يعكس ثقافتنا وهويتنا".

وتشير "عدس" إلى أن الجدة لم تكن تنسى جيرانها من هذه الأطعمة التراثية، فكل الجيران كانوا يأكلوا من هذه الطبخة وتسود أجواء الألفة والمحبة.

وتختتم بأسف بأن الكثير من الأكلات التي تمثل هويتنا تكاد تندثر في ظل ثقافة عولمة الطعام، مشددة على أن صنع الأكلات التراثية ستظلّ طقوسها لحظة فريدة من نوعها، "تجعلنا نستحضر أجمل اللحظات التي عاشها أجدادنا، لتبقى هذه الأكلات الجميلة ترسخ بيننا القيم والروح العائلية، وتحافظ على تراثنا الثقافي العريق".