"نبدأ رحلتنا كل صباح نحمل أدوات القطاف والسلال الخشبية الواسعة، ونجتمع بالعائلة في القرى الفلسطينية المهجرة، تتحلى وجوههم بابتسامات مشرقة تعكس البهجة بقدوم هذا الوقت من العام"، بهذه الكلمات بدأ الستيني أحمد فحماوي حديثه عن موسم حصاد الصبر.
فحماوي من قرية أم الزينات قضاء حيفا، بدأت حكايته حينما كان طفلًا يجوب شوارع القرى الفلسطينية، يقترب من شجر التين الشوكي الجميل متذوقاً ثماره الشهية.
اقرأ أيضاً: فوائد الصبر (التين الشوكي)
و"أم الزينات" قرية مهجرة تقع على السفح الجنوبي لجبل الكرمل، سميت بهذا الاسم بسبب وقوعها بجانب خربة تُدعى "زينة"، حاصرتها عام 1948 قوات "الهاجاناة" الإسرائيلية من جميع الجهات، إلا من جهة الغرب ليُغادرها أهلها.
رمز الصمود
يقول فحماوي لـ"فلسطين"، إن التين الشوكي جزءٌ من هويته الفلسطينية، يشبه تمسك الفلسطيني بأرضه، فكما أن التين الشوكي ينتج ثماره الحلوة رغم صعوبة ظروف الزراعة والمحيط القاسي، كذلك الفلسطيني يتحدى الاحتلال الإسرائيلي ويبقى شامخًا مضحيًا لأجل وطنه وأرضه.
وتختلف تسمية النبتة من بلد لآخر، حيث تجدها في فلسطين وبلاد الشام تسمى"الصبر" أو "الكوز"، وفي مصر "التين الشوكي"، وفي الجزيرة العربية "البرشومي"، وتزرع بطريقة الألواح.
ووفق فحماوي، يبدأ قطاف الصبر من أواخر شهر يوليو حتى منتصف شهر أغسطس، إذ يتجوّل في القرى الفلسطينية المهجرة ويقطف الصبر منها "هواية" فهو صاحب صنعة في مجال الكهرباء، غير أن حبه لقريته أم الزينات يدفعه كل عام لقطف هذه الثمرة الغنية بالأشواك.
ولا يقتصر فحماوي على قرية واحدة، فهو يزور في كل يوم قرية جديدة يتعرف إلى أسرارها، ويقطف ثمرة صبرها، مؤكدًا أن الثمار لا تختلف من قرية إلى أخرى، لكن أحلاه في قرية أم الزينات وقرية أم الشوف "فطعمه حلو ومميز بطريقة مختلفة".
قطرات الندى
ويشرح فحماوري طريقة قطف ثمرة الصبر: "الكثير يفضّل قطفها في الصباح الباكر إذ تغلّف حبةَ الصبر قطراتُ الندى، ما يمنع تطاير أشواكها الخارجية، وفي حال قطف بغير هذا التوقيت يجب على المزارع الوقوف بعكس اتجاه الريح حتى لا تتطاير الأشواك الناعمة على العينين".
ويستخدم فحماوي خشبة يصل طولها لثلاثة أمتار، تساعده على إيقاع حبات الصبر وتحمي يديه من الأشواك، مشيرًا أن البعض يلبس الكفوف، ويقوم بالقطف اليدوي وهذا يحتاج لخبرة طويلة وحذر شديد.
ويعد التين الشوكي نبتة معمرة تنتمي إلى فئة الصباريات، ولها قدرة على مقاومة الجفاف، نظرًا لسيقانها المليئة بالماء، وتعد طعاماً مفضلا للإبل في المناطق الصحراوية برغم أشواكها الحادة المنتشرة على سطح النبتة.
وتحتوي ثمرة التين الشوكي من الداخل على اللبّ اللحمي الممتلئ بالبذور الصغيرة، أما قشرتها فهي سميكة تحتوي على مسام كثيرة، تنبت في كل منها أكثر من شوكة دقيقة جدًا، وناعمة حادّة.
ومنذ أن بدأ مشواره في قطف ثمار الصبر قبل 40 عامًا، عاهد فحماوي نفسه ألا يأخذ أي مبلغٍ لقاء حصاده، إذ يجمع الثمار يوماً بعد يوم ويوزعها على الجيران والأحباب في كل قرية يجمع محصولها.
ويلفت إلى أن قطف الصبر في قرية أم الشوف ليس سهلاً بسبب انتشار القشّ الذي تسكنه الأفاعي، فعلى المزارع الانتباه والحذر في أثناء القطف دون التسرّع في الحركة والمشي.
ويأسف فحماوي لانتشار القمامة بين المقابر التي تحتوي على الصبر والأراضي الفارغة، ما يطمس شكل الصبر الجميل وينهك التربة ويتعبها بالأكياس البلاستيكية والمواد غير المفيدة لها.
ووفق فحماوي، يواجه الصبر مشكلات كثيرة، أبرزها إصابته بمرض تسببه (الدودة القرمزية)، تسفر عن موت الشجر بشكل كامل، معبرًا عن مخاوفه من قضاء الوباء على الأشجار كافة.
مصدر رزق
ويلفت إلى أن الكثير من الناس ينتظر موسم حصاد نبتة الصبر لكونها مصدر رزقٍ للكثير منهم، إضافة إلى أنها لا تحتاج إلى رعاية وريّ وأسمدة كغيرها من المزروعات، فهي نبات بعلي يعتمد على مياه الأمطار.
والصبر فاكهة صيفية محببة للفقراء والأغنياء، لتدني أسعارها مقارنة بالفواكه الأخرى، كما يُعد الصبر بمنزلة الجدران التي تحمي الأرض من الحيوانات الضارة، والعبث بالمزروعات، وفق فحماوي.
وتنتشر العديد من الأمثال الشعبية التي تتعلق بالتين الشوكي، منها: "في تَـمُّـــوز بيصير الصبر قد الكوز"، و"في تَـمُّوز اقطف الكوز" والكوز هنا هو ثمرة الصبر، والصبر مفتاح الفرج، والصبرة فاكهة الفقراء.
وكانت الجدات ينصحن قديما بأكل الصبر أسبوعا كاملا أو أسبوعين وجبة صباحية، مع خبز الطابون أيام الحر الشديد (القيظ) وكن يقلن للأولاد والأحفاد: الصبر يشرح البال ويصلح الحال، ويجلب بنت الحلال.
ويختتم فحماوي حديثه قائلًا: "الصبر بجماله وتراثه الزراعي من الدروع الرمزية لفلسطين، يحمل في جعبته أمجاد الأجداد والأحلام المشرقة للأجيال القادمة".