مرحلة غير مسبوقة من الصراع الداخلي وصل إليها المجتمع الصهيوني مع إقرار كنيست الاحتلال قانون "المعقولية" الذي يحد من صلاحيات المحكمة العليا في الكيان بالقراءتين الثانية والثالثة بأغلبية "64" صوتًا مقابل لا شيء وسط انسحاب أعضاء المعارضة مع فشل المفاوضات الساخنة بين الأحزاب السياسية المتصارعة برعاية رئيس الكيان "يتسحاق هرتسوغ"، ولجوء الطرفين إلى الشارع لإثبات قوة كل طرف في مواجهة الطرف الآخر.
تواصل تنظيم المظاهرات الرافضة للتعديلات القضائية للأسبوع التاسع والعشرين على التوالي، مع بدء تنظيم حشودات أخرى داعمة لخطوة نتنياهو والأحزاب اليمينية، وبروز بعض حالات العنف المتبادل في الشارع الإسرائيلي، وبدء حديث بعض المفكرين الإسرائيليين أمثال البروفيسور "عيران إليشيف" عن فكرة تقسيم كيان الاحتلال إلى دولتين الأولى توراتية تحت اسم دولة "يهودا"، والأخرى علمانية تحت اسم "دولة تل أبيب" يؤكد احتدام الصراع السياسي الداخلي في الكيان، وبدء أفول وحدة الكيان ومؤسساته الأمنية والعسكرية والاقتصادية.
تصاعد حالات العصيان ورفض الخدمة العسكرية احتجاجًا على التعديلات القضائية ربما وصلت إلى مرحلة متقدمة من تأثير الصراع السياسي سلبًا على قوة وتماسك جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، ووحداته العسكرية المختلفة، فإعلان "1142" من طياري سلاح الجو الإسرائيلي العصيان ورفض الخدمة العسكرية بحسب الإعلام العبري، إلى جانب عصيان "420" من وحدة الكوماندوز البحري "شايطيت 13"، و"250" من وحدة العمليات الخاصة "سيريت متكال"، و"1100" من وحدة "السايبر"، ونحو"100" من رؤساء الموساد والشاباك وجنرالات سابقين بجيش الاحتلال، إضافة إلى جنود وضباط في وحدة رئاسة الأركان في جيش الاحتلال، ومئات الأطباء النفسيين والمقاتلين القدامى، دفع رئيس كيان جيش الاحتلال "هرتسي هاليفي" إلى التصريح بأن "صورة الوضع الأمني مقلقة جدًا"، وتحذيره علنًا لرئيس حكومة الاحتلال من أن ظاهرة العصيان في قوات جنود الاحتياط قد تصل إلى الجيش النظامي، وهي ظاهرة ما تزال تتصاعد يومًا بعد يوم بشكل غير مسبوق في تاريخ كيان الاحتلال منذ إنشائه.
اقرأ أيضًا: هرتسوغ يحاول عبثًا ترميم العلاقة المتدهورة مع واشنطن
اقرأ أيضًا: مبدأ عدم المعقولية وانهيار الديمقراطية
لم تتوقف التداعيات السلبية للتعديلات القضائية على جيش الاحتلال، بل طالت القطاعات الاقتصادية التي تًعد أحد أركان كيان الاحتلال، فمع الإعلان عن انهيار مباحثات التسوية حول التعديلات القضائية، وإقدام كنيست الاحتلال على إقرار قانون إلغاء "حجة المعقولية" سجلت بورصة "تل أبيب" تراجعًا حادًّا بين 1.8% و 1.9%، وسجل الدولار زيادة حادة مقابل الشيكل الإٍسرائيلي بلغت 3.645 شيكل، قبل أن يتراجع إلى 3.615 شيكل للدولار الواحد، كما أعلن منتدى الأعمال الاقتصادية الذي يضم "150" من كبار المسؤولين التنفيذيين في قطاع الأعمال الإسرائيلي التحضير لإغلاق المنشآت الاقتصادية المختلفة في الكيان، بما يشمل المصانع، والمراكز التجارية، ومحطات الوقود، وشركات التكنولوجيا، ومكاتب المحاماة، والخدمات القانونية، وغيرها من منشآت الأعمال، كما أظهر استطلاع رأي نشرته منظمة "ستارت- أب نيشن سنترال" أول أمس أن 68% من الشركات الناشئة الإسرائيلية بدأت في اتخاذ خطوات قانونية ومالية فعلية لنقل مقراتها الرئيسة إلى خارج الكيان، وهي خطوات تشمل أيضًا سحب الاحتياطيات النقدية، وتسريح الموظفين، الأمر الذي سينتج عنه حتمًا تداعيات سلبية مؤثرة ومباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي في المرحلة المقبلة.
إن احتدام الصراع الداخلي بين الأحزاب الصهيونية، واقترابه من الصدام العنيف، ومرحلة اللا عودة، وتأثيراته الواضحة على تماسك وقوة جيش الاحتلال، وأركانه الاقتصادية المختلفة ينبغي أن يمثل رافعة لنا كفلسطينيين لاستثمار هذه اللحظة الحاسمة، فالشعب الفلسطيني قادر على امتلاك زمام المبادرة، وتهشيم المشروع الاستيطاني الذي ترعاه وتموله حكومة نتنياهو في الضفة، كما أن التنسيق الأمني الذي أضحى وبالًا على القضية الفلسطينية آن له أن يتوقف، ومشروع التسوية الفاشل الذي تتمسك به سلطة عباس آن له أن ينتهي إلى غير رجعة.
واليوم ومع وصول الأزمة السياسية الحادة في الكيان إلى طريق مسدود، والتفات الصهاينة إلى التصارع الداخلي يساعد في اكتشاف وتحديد نقاط الضعف لدى الكيان، ويدفعنا كفلسطينيين إلى التفكير مليًّا في آليات إضعاف مشروعه الاستيطاني في الضفة والقدس، وربما ما تشهده محافظات طولكرم ونابلس بعد جنين من أحداث ميدانية واشتباكات مسلحة بين المقاومة والاحتلال يمكننا البناء عليه، بالعمل على تنوع أشكال المقاومة الفلسطينية لتعم جميع محافظات الضفة، وتُوحِّد جهود الفلسطينيين الهادفة إلى وأد المشروع الاستيطاني ودحر المستوطنين عن الضفة، وتحرير الأرض الفلسطينية من دنس الاحتلال وجبروته.
إن الحالة التي يعيشها الكيان تتطلب من الفلسطينيين المسارعة إلى وحدة الصف الداخلي وتماسكه، وبناء جبهة وطنية قادرة على قيادة الفلسطينيين وتوجيه ضربات مركزة في شتى المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية إلى كيان الاحتلال، بخطة عمل، ورؤية واضحة هدفها استنهاض جميع فئات الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وتحرير الأرض الفلسطينية وبناء الدولة المستقلة.