"ستون دقيقة قيّمة تحت الشمس استمتعت بها وكأنها ثروة لا تقدر بثمن، وفي كل ثانية قضيتها في انتظار قدوم عائلتي حملت في طياتها شحنة من السعادة والأمل".
بهذه الكلمات عبر الأسير المحرر خالد السواركة من سكان المحافظة الوسطى في قطاع غزة، عما جال في خاطره بعد أن نال قبل أيام حريته من سجون الاحتلال، مشيراً إلى أن الاحتلال اعتقد بأنه سينغص عليه فرحته بتعمده الإفراج عنه قبل ساعة من الموعد الذي اتفق عليه مع عائلته.
حياة صعبة
أما عن منشأ القصة فقد بدأت عام 2002 من على حاجز المطاحن أو كما يطلق عليه فلسطينيًا "أبو هولي" عندما اعتقله جيش الاحتلال بتهمة مشاركته في نشاطات المقاومة الفلسطينية، وزراعة العبوات الناسفة، والخوض في اشتباكات مسلحة.
اقرأ أيضاً: أسير محرر يدعو لبرنامج وطني مساند للأسرى في معركتهم ضد الاحتلال
في بداية الاعتقال خضع السواركة لتجربة تحقيق "قاسية"، قائلاً إنها أصعب مرحلة يمر بها الأسير منذ بداية اعتقاله حتى انتهاء محكوميته، "ولكنه يقابلها بالتحدي خاصة أن الاحتلال يحاول خلالها أن يكسر من عزيمتنا بشتى أنواع التعذيب. وهذه المدة تأخذ من عمر الأسير شهورًا أو أسابيع أو أيامًا أو ساعات طويلة".
شهران وعشرة أيام مكث السواركة متنقلًا في أقبية التحقيق، في تلك الفترة يعطي الاحتلال لنفسه الضوء الأخضر للمس بالخطوط الحمراء في حياة الأسير.
ويضيف: "حرمتُ من الصلاة وأخبرتهم أنها خط أحمر بالنسبة لنا كمسلمين، كما حرمت من قضاء الحاجة لبضعة أيام، والحرمان من تناول الطعام إلا بالقدر الذي يبقينا واعين وعلى قيد الحياة للاستمرار في جولة التحقيق".
ويشير إلى أن المحققين يعتمدوا في جولات التحقيق على اللحظة التي يصبح فيها جسد الأسير ضعيفًا ليتمكنوا من انتزاع اعتراف منه، ولكن عزيمته وإرادته أقوى من المحتل، كونه يدرك أنه يخوض حربًا معنوية بدلًا من التي كان يقودها على أرض الواقع.
افتقد السواركة حريته وبات محاطًا بالقيود والحواجز، وطالبوا بمحاكمته 50 عامًا، وبعد جولات استئناف في محاكم الاحتلال وجلسات طويلة ومداولات لمدة 4 سنوات حكم بالسجن 21 عامًا.
ويستذكر يوم الحكم عليه، أنه رفض حضور أهله جلسة المحكمة، خوفًا عليهم من ردة فعلهم لحظة نطق القاضي الإسرائيلي بالحكم، "كنت لا أريد أن يتحملوا ما لا طاقة لهم به خاصة أنني أصغر أشقائي".
وفي أثناء مثوله ورفيق له أمام المحكمة وعند النطق بحكمهما واجها القاضي الإسرائيلي بضحكة وابتسامة، ويعلق على ذلك بالقول: "هذه الابتسامة تعكس روحًا قوية وثباتًا في وجه القمع والظلم".
وعند نقلهما من المحكمة إلى الأسر، سأله أحد الحراس في قوة النحشون الإسرائيلية: كيف تواجه حكمك بالضحك؟ فأجابه بكل ثقة: "ما هو إلا حكم زائل، فالحكم لله وسأتحرر قريبًا".
استثمار السجن
كعائلة واحدة استقبله الأسرى القابعين في الأسر منذ سنوات كعائلة واحدة، وشارك معهم معاركهم ضد المحتل عام 2012 بأمعائهم الخاوية للمطالبة بحقوقهم وعلى رأسها السماح لأهالي الأسرى بالزيارة وذلك بعد حرمان دام سنوات.
ورغم الظروف الصعبة التي واجهها السواركة قبل الاعتقال وإصابته برصاصة في الظهر، إلا أنه وجد في فترة اعتقاله فرصة للعودة إلى مقاعد الدراسة التي انقطع عنها في المرحلة الإعدادية، "فالأسر ليس مجرد زنزانة وإنما معركة عقول يخوضها الأسرى في كل لحظة ضد المحتل. درست الثانوية العامة وحصلت على معدل 75%، وشهادة البكالوريوس في التاريخ".
ويوضح أن الدراسة في الأسر ليست بالأمر الهين بل يحرموا من الالتحاق بالجامعة، ومنع من إدخال الكتب الكافية، فيعمدوا إلى نسخ الكتب يدويًا لتكفي عدد الملتحقين بالجامعة ويستفيد منه أكبر عدد من الأسرى.
وينبه السواركة إلى أن الانتهاكات اليومية التي تطال الأسرى من إدارة السجون، حيث يتعرضون لأبشع الجرائم وعلى رأسها الإهمال الطبي المتعمد.
ويقول إن فقدانه والديه وشقيقه دون طبع قبلة أخيرة على جبينهم كان أكثر ما آلمه خلال قضائه سنوات الاعتقال، "فأصعب المواقف التي يمر بها الأسير هي عدّ الأيام للعودة على أحضانهم والتمتع بالنظر إليهم، فتفقدهم فجأة دون وداع أو صلاة عليهم. ومع ذلك عليك أن تخوض سياسة التحدي أمام تلك الأخبار وتكون أكثر قوة حتى لا تسمح للاحتلال أن يرى ضعفنا".
لحظات مختلطة
ومع اقتراب موعد الافراج يكون الأسير على موعد مع لحظات انتظار صعبة ومشاعر مختلطة، فتلك اللحظة الحاسمة عندما يضع قدميه خارج أسوار السجن "يعجز الكُتاب والشعراء عن وصفها. هي لحظة لا تقدر بثمن، إنها الحرية، خاصة بعد احتضان ابنتي "صباح" التي تركتها وعمرها عام ونص وعدت إليها وهي شابة".
في فترة اعتقاله الطويلة حاول السواركة جاهدًا أن يكون متابعًا لكل تفاصيل حياة عائلته بشتى الطرق بالرسائل أو الزيارات والاتصالات المستمرة.
ويختم السواركة حديثه: "الجميل في الأمر أنه عند اعتقالي كان القطاع محتلًا، اليوم عدت إليه محررًا بعد انسحاب الاحتلال منه، فإنه لشعور جميل عندما ترى ثمرة جهادك وأن السنوات التي قضيتها لم تذهب هدرًا"، متمنيًا أن يعيش أبناء فلسطين بأكملها هذه الحرية والفرحة.