فلسطين أون لاين

سلبها الاحتلال إطلالة على "الجنة"

تقرير عائلة "صب اللبن".. تهجير قسري بعد حكاية صمود دامت 50 عامًا

...
نورا صب لبن مالكة المنزل الذي استولى عليه الاحتلال- أرشيف
القدس المحتلة – غزة/ يحيى اليعقوبي:

لأول مرةٍ منذ خمسين عامًا، يقفل بوجهها باب بيتها الذي ولدت وترعرعت وتزوجت فيه، عندما سارت نورا صب اللبن (68 عامًا) إلى بيتها صباح أمس، لتجده مغلقًا بعدما طردت قوات الاحتلال زوجها والمتضامنين لصالح المستوطنين.

لم تملك نورا سوى ذرف دموع حسرة تسقيها ذكرياتٍ عاشتها في هذا المنزل، تسير بخطوات متثاقلة من شدة المصاب، ومن الخلف يعلو صوت المتضامنين: "حرية حرية" محاولين مؤازرتها وشحذ معنوياتها، تصرخ بألم يخرج من قلبها ممزوج بالحزن: "شكيتكم إلى الله. روح أمي وأختي وأخوي في هذا المنزل".

بينما تسير بخطواتٍ ثقيلة من الألم، كانت نورا تبكي على كتف نجلها وتتذكر ذكرياتها في هذا المنزل الذي ولدت وترعرعت وتزوجت فيه. تعبيرات الدعم والحرية ترتفع من المتضامنين الذين يحاولون توجيه الدعم لها ورفع معنوياتها، في حين تعبّر نورا عن ألمها بكلمات مؤثرة: "أنا ألجأ إلى الله. روح والدتي وأختي وأخي في هذا المنزل".

من أمام منزلها الواقع بحارة الخالدية بالبلدة القديمة، أمسكت نورا مكبر صوت ورفعت شارة النصر وهتفت "القدس عربية"، بنبرة تحدي وجهة كلماتها للمستوطنين قائلة: "فلسطين والقدس عربية وحتضل عربية عمرها ما راح تصير إسرائيلية. بيوتنا، ترابنا، ستبقى فلسطينية وأنتم إلى زوال".

تاريخ وإطلالة

منذ ثلاثة أشهر تعيش الحاجة نورا صب اللبن وزوجها بقلق وخوف من تنفيذ الاحتلال قرار إخلاء منزلها الذي يتميز بإطلالة ساحرة على مسجد "قبَّة الصخرة"، ولا يفصله عن المسجد الأقصى سوى مسافة لا تتجاوز 100 متر، وكثيرًا وصفته بأنه "بيت يطل على الجنة"، رغم أن مساحته لا تتجاوز 65 مترًا مربعًا، وهو من أقدم المنازل في المدينة المُقدسة.

لم تكن عملية التهجير القسري سوى المحطة النهائية في قصة صمود بدأت فصولها قبل خمسين عامًا، حينما بدأت محاولات الاحتلال لإخلاء البيت بذريعة استئجاره من الحكومة الأردنية واعتباره أملاكًا تابعة للاحتلال، تعيد قص فصولها لصحيفة "فلسطين" بصوت مثقل بالألم قائلة: "منذ 47 سنة، وأنا أتوجه للمحاكم الإسرائيلية، وأحاول الدفاع عن حقي، لكنها لم تنصفني أبدًا، لأنه قضاء مسيس ومجند لخدمة الاحتلال".

ذهبت صب اللبن الليلة لمراجعة الطبيب، وبقي المتضامنون يحرسون بيتها من الداخل خوفًا من الإخلاء، وجلس معهم زوجها "مصطفى"، أغلقوا الباب على أنفسهم بوضع أثاث وأسرّة لم تمنع قوات الاحتلال من اقتحامه في الصباح وطردهم للخارج.

تقول: "حملوا زوجي الذي كان يتشبث بالبيت، وأغلقوا الأبواب على كل شيء في الداخل، ولم نتمكن من إخراج أي شيء من المنزل، باستثناء شجرة بعمر 17 سنة بعمر حفيدي، زرعناها خارج البيت وتمكنا من نقلها".

ومنذ عام 2010 بدأت محاولات المستوطنين لإخلاء منزل صب لبن، حيث أصدر الاحتلال أمرًا بالإخلاء عام 2015 لكن العائلة تمكنت من وقف تنفيذه، وبعدها بعام قام الاحتلال بطرد أولادها الأربعة (ثلاثة ذكور وبنت) وأحفادها، ومنعهم من العيش من المنزل، وبعدها بعامين، رفع المستوطنون قضية جديدة للمطالبة بإخلاء المنزل.

اقرأ أيضاً: حمادة: الاستيلاء على منزل عائلة "صب لبن" عدوان سافر لن يفلح في تهجير المقدسيين

من ذاكرتها المثقلة بالأسى، تطل عليها صورٌ من المعاناة والتشتت: "اضطررت إلى إسكان أولادي في مخيم شعفاط، (شمال شرق القدس)، وبقيت مع زوجي وحدنا في المنزل، كنت أتنقل بين المنزلين، وعشت معاناة صعبة، أذهب إلى هناك لإعداد الطعام لأبنائهم، ثم أعود إلى منزلي".

قبل العيش حياة التشتت، صبرت على العيش في منزل يرفض الاحتلال تنفيذ أي عملية صيانة فيه، فالمنزل أكلت الرطوبة جدرانه المقوسة الأثرية، ومنع الاحتلال طلاء جدرانه، كذلك أجبرها الاحتلال على إزالة جهاز تبريد بعد يومين من تركيبه، بهدف التضييق عليها، لكنها تحملت المعاناة رافضة التخلي عن منزلها.

ذكريات وصمود

"كل حياتي وطفولتي عشتها في المنزل، ولدتُ وتيتمتُ فيه، كل ذكرياتي عشتها فيه، ومهما حاولوا سرقته، ستبقى محفوظة في قلوبنا، وهذا الاحتلال الغاشم إلى زوال"، قالت بنبرة ممزوجة بين التحدي والحزن على ذكريات سلبها الاحتلال منها.

لطالما وصفت الحاجة "صب اللبن" منزلها الذي يطل إطلالة ساحرة على قبة الصخرة "أنه يطل على الجنة"، لم تتخيل يومًا أن تفتح النافذة على مشهد غير مشهد تلألأ القبة الذهبية من انعكاس الشمس عليها في كل صباح، تبكي حسرتها كلمات قهر غادرت قلبها: "لا يمكن تصور أن يتم سلب هذا المكان منك، فلقد وُلدت هنا، وتزوجت وربيت أولادي هنا، ولم أكن أتوقع يومًا أن يتم انتزاعه مني بهذه الطريقة".

يبلغ عمر منزلها الأثري الذي لا تتجاوز مساحته 65 مترًا، أكثر من 150 عامًا، وهو أكبر من عمر وجود الاحتلال في فلسطين، يتميز بأن لديه نوافذ واسعة تستطيع وهي تجلس على المقاعد بداخل صالتها رؤية "قبة الصخرة".

من "جنة" عاشت فيها كل عمرها، وبقيت حجارة منزلها شاهدة على ذكرياتها فيه، انتقلت العائلة للعيش حياة التشرد القسري والتهجير، فتسكن حاليًا الحاجة وزوجها مؤقتًا في بيت عمها الواقع بنفس الحي، لم تستطع مغادرة المكان الذي لا تستطيع روحها مفارقته.

اقرأ أيضاً: الإسلامية المسيحية تدين الاستيلاء على منزل عائلة صب لبن وتعتبره جريمة ضد الإنسانية

وبنبرة صمود وتمسُّك تعتبر منزلها "أسيرًا لدى الاحتلال ستعود إليه يومًا مًا ولن تتخلى عن حقها فيه"، تردف: "أمضيت 47 عامًا في محاكم الاحتلال وأنا أدافع عن حقي فيه ولن أتنازل عن حقي بسهولة".

طوال ثلاثة أشهر لم يخلُ بيتها من المتضامنين الذين ساندوا قضيتها، عاشت كل المدة بقلق وخوف من أن يقدم الاحتلال على التسلل خلسة في جنح الظلام، أو اقتحام المنزل صباحًا، موجهةً رسالة بنبرة تحدٍ للاحتلال "سنبقى أقوياءً، وشوكة في حلق الاحتلال، وخسئ المتطرف "بن غفير" وحكومته وشرطته".