تسهيلات اقتصادية وإغراءات مالية، وحزمة قرارات داعمة لقيادة السلطة الفلسطينية أقرها المجلس الوزاري المصغر لحكومة نتنياهو بأغلبية ثمانية أعضاء، ومعارضة الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، وامتناع عضو واحد عن التصويت، ضمن خطة إسرائيلية لإنقاذ السلطة الفلسطينية من حالة الانهيار المتواصلة في الشارع الفلسطيني، في ظل تراجع قبضتها الأمنية في الضفة المحتلة، وتنامي حالة الغضب الشعبي تجاه السلطة وأجهزتها الأمنية، وصلت إلى حد مهاجمة المواطنين لمقر المقاطعة في جنين بالحجارة، وطرد قيادات السلطة وحركة فتح من جنازة تشييع شهداء جنين في تعبير غاضب عن حالة الاستياء الواسعة تجاه نكوص الأجهزة الأمنية الفلسطينية عن واجباتها في الدفاع عن مخيم جنين، واختباء عناصرها داخل المقرات الأمنية طيلة مدة عدوان جيش الاحتلال على جنين في الأيام الماضية.
خطة الإنقاذ الإسرائيلية التي تهدف إلى منع انهيار السلطة يمكن أن نطلق عليها مسمى "رشوة سياسية" إذ إنها جاءت مشروطة، فتَسهيلات حكومة نتنياهو تضمنت وعودات بموافقة الاحتلال على إقامة منطقة صناعية في "ترقوميا" بمحافظة الخليل جنوب الضفة المحتلة، وإعادة جدولة بعض الديون المالية على السلطة الفلسطينية، ومنحها دفعات مالية من أموال الضرائب التي تجبيها حكومة الاحتلال نيابة عن السلطة وفق اتفاقية باريس الاقتصادية، ومنح قادة السلطة بطاقات "VIP" تتيح لهم سهولة السفر والتنقل مع عائلاتهم على الحواجز الاسرائيلية وفي الداخل المحتل دون معيقات، إضافة إلى تمديد ساعات العمل في معبر الكرامة الحدودي بين الأراضي الفلسطينية والمملكة الأردنية.
حكومة نتنياهو اشترطت الحصول على ثمن سياسي من السلطة الفلسطينية مقابل تلك التسهيلات الواهية، حيث طالبت السلطة بتجميد أنشطتها ضد "إسرائيل" في الساحة القانونية والسياسية الدولية، كما اشترطت تغيير المناهج التعليمية الفلسطينية لمصلحة رواية الاحتلال، واتخاذ السلطة قرارًا بإيقاف دفع رواتب الأسرى وعائلات الشهداء الفلسطينيين.
اقرأ أيضًا: ما من صيغة سياسية صهيونية يمكن أن تفيد الفلسطينيين
اقرأ أيضًا: نتنياهو وقمع "طموح" منظمة التحرير
المريب في خطة الإنقاذ الإسرائيلية أنها جاءت تزامنًا مع إقدام الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية على تنفيذ خطة انتشار واسعة في مدينة جنين، حيث استقدمت قوات من عدة محافظات لدعم الأجهزة التابعة لها في جنين، كما اتخذت قيادة السلطة قرارًا موازيًا بصرف علاوة مالية قدرها أربعمئة شيكل "تعادل 110 دولار أمريكي" لجميع عناصرها الأمنية من الرتب المتدنية "من رتبة جندي وحتى رتبة ملازم"، في محاولة منها لتقديم إغراءات مالية، وشراء ذمم هؤلاء الجنود خوفًا من إقدام أحدهم على الانضمام لصفوف المقاومة، أو تنفيذ عملية فدائية ضد الاحتلال، خاصة في ظل تصاعد عدوان جيش الاحتلال والمستوطنين على أهالي الضفة، وهو احتمال تخشاه الأجهزة الأمنية التي تتمسك بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، التي تعرضت سابقًا لبعض الضربات الداخلية من جراء إقدام بعض العناصر على الانضمام لمجموعات المقاومة، وتنفيذ عمليات فدائية ضد جيش الاحتلال.
هواجس حكومة نتنياهو من انهيار السلطة تأتي في ظل صمود المقاومة الفلسطينية في مخيم جنين، ونجاحها في صد عدوان الاحتلال، وارتفاع وتيرة عمليات المقاومة في الضفة، ونجاحها في تنفيذ عملية وسط تل أبيب، وإيقاع خسائر بين جنود الاحتلال ومستوطنيه في الأسابيع الأخيرة، كما أنها تأتي في ظل تطور نوعي في قدرات المقاومة الفلسطينية على صعيد تصنيع العبوات شديدة الانفجار، وإطلاق صواريخ للمرة الثانية في مدة وجيزة على مستوطنات شمال الضفة المحتلة، ما يشير إلى أن مستوطنات الضفة ربما تتعرض في الأشهر المقبلة إلى رشقات صاروخية شبيهة بتلك التي تتعرض لها مستوطنات غلاف غزة.
خطوات حكومة نتنياهو الداعمة للسلطة تأتي بعد أقل من أسبوعين من تسريبات إعلامية على لسان نتنياهو في اجتماع مغلق أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة لكنيست الاحتلال، أكد فيها أن حكومته لن تسمح بانهيار السلطة الفلسطينية، وأنه مستعد لمساعدتها من الناحية الاقتصادية، واصفًا إياها بأنها "تقوم بالأعمال نيابة عن الاحتلال، ولا توجد مصلحة إسرائيلية بسقوطها"، مؤكدًا في الوقت نفسه رفضه المطلق لقيام دولة فلسطينية مستقلة في المستقبل، بما يؤكد حرص نتنياهو على استمرار السلطة الفلسطينية في أداء دورها الوظيفي الذي يخدم بقاء الاحتلال، دون أن يكون لها قدرة على تحقيق أي أهداف سياسية أو وطنية بتحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
قلق حكومة نتنياهو من انهيار السلطة الفلسطينية نابع من خوفها من تحمل الأعباء والمسؤولية المباشرة لاحتلالها العسكري للضفة، حيث وصف "عاموس جلعاد" وهو جنرال احتياط في جيش الاحتلال بأن انهيار السلطة بمثابة "الكارثة"، وهي مخاوف حقيقية دفعت حكومة نتنياهو التي وصفها الرئيس الأمريكي "جو بايدن" بأنها الأكثر تطرفًا إلى المبادرة العاجلة بتقديم الأموال والتسهيلات الاقتصادية التي أعلن عنها.
ختامًا، فإننا لا نتوقع أن تنجح خطة نتنياهو في إنقاذ السلطة الفلسطينية، فالشارع الفلسطيني بات يدرك جيدًا أن التمسك بالتعاون والتنسيق الأمني مع الاحتلال، وملاحقة المقاومة في الضفة، والنكوص عن الدفاع عن البلدات والمخيمات الفلسطينية هي إحدى أبرز العوامل التي شجعت المستوطنين وجيش الاحتلال على تصعيد عدوانهم ضد الفلسطينيين، وليس أدل على ذلك من استطلاع الرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية برام الله في الفترة (7-11) يونيو الماضي، والذي أكد فيه "71%" من الفلسطينيين دعمهم لتشكيل مجموعات المقاومة في الضفة، في حين عارض "86%" من المستطلعة آراؤهم الاعتقالات السياسية وملاحقة السلطة لعناصر المقاومة، والأهم أن "63%" من الفلسطينيين باتوا بحسب الاستطلاع يعتبرون بقاء السلطة هو مصلحة اسرائيلية.