فلسطين أون لاين

في ذكرى "العصف المأكول".. الضفة على درب غزة

تمر علينا الذكرى التاسعة للعدوان الإسرائيلي الثالث على قطاع غزة، وقد سمَّاه الاحتلال “الجرف الصامد”، في حين تصدت له حركة حماس ومعها بقية الفصائل المقاتلة بمعركة "العصف المأكول"، والقلب مَلِيء بالجراح بسبب العدوان الصهيوني المتواصل على الشعب الفلسطيني، فبالأمس القريب اجتاح الاحتلال مخيم جنين وارتكب المجازر، وهدم البنية التحتية، وهذا مشهد الوضع الدموي القائم في الضفة عامة، ففي كل يوم يجتاح الاحتلال مدينة ومخيمًا وقرية، ويرتكب أبشع المجازر مخلفًا الشهداء والمصابين، والدمار في ممتلكات المواطنين.

انتهت معركة "العصف المأكول" بعد 51 يومًا من العدوان على القطاع بانتصار المقاومة، واندحار قوات الاحتلال من المناطق التي تغولت فيها دون أن تحقق أيًّا من أهدافها التي أعلنتها في بداية المعركة، وقد أصبحت “العصف المأكول” علامة فارقة في “توازن الرعب” فما قبلها ليس كما بعدها، إذ رسخت المقاومة فيها معادلة "القصف بالقصف وإن عدتم عدنا"، فكان ردها حاضرًا وفوريًا على قصف الاحتلال لمنازل الموطنين، بردها المماثل في قصف المستوطنات المتاخمة للقطاع، قبل أن يتوسع قصفها الصاروخي البعيد والمتوسط والقصير الذي وصل إلى أغلب جغرافيا فلسطين المحتلة، ليطال عشرات المدن الرئيسة والمستوطنات مثل: (تل أبيب)، والقدس، والمطارات، واللد، والرملة، وهرتزليا، وريشون ليتسيون، وأسدود، وحيفا، وصولًا إلى المناطق الواقعة على البحر الميت شرقًا والبحر الأحمر جنوبًا “إيلات/ أم الرشراش” والنقب، وقد ربطتها بأي قصف لبرج مدني في غزة، وعلى كل مجزرة ارتكبها الاحتلال ضد المدنيين، بتوسيع "بقعة الزيت"، أي توسيع قطر دائرة الاستهداف سواء كانت فوق الأرض أو تحتها بـ“سلاح الأنفاق”، وهو سلاح تكتيكي هجومي استخدمته المقاومة لاختراق حصون الاحتلال، وضرب صفوفه الخلفية، وساعدها في إنجاز أصعب المهام وأعقدها على الإطلاق، لما حققته المقاومة من إنجازات على أرض المعركة، وكانت بمثابة هاجس مرعب أربك جنود الاحتلال، لتُلاحقهم هواجس الخوف حتى هذه الأيام، بتراجع قدراتهم وانخفاض معنوياتهم إلى أدنى مستوياتها العسكرية.

اقرأ أيضًا: العصف المأكول وحجم التحول في قدرات المقاومة

اقرأ أيضًا: مخيّم جنين جذوة المقاومة التي لا تنطفئ

ما تميزت به معركة “العصف المأكول” حقيقة، هو أنها كانت تسير وفق بنك أهداف متنوع وجدولٍ مزدحم من المفاجأة، إضافة إلى عشرات الكمائن التي أوقعت قتلى وجرحى بصفوف جنود الاحتلال، إذ إن رجال المقاومة على رأسها كتائب القسام استطاعوا الوصول إلى أماكن أمنية تعتبرها (إسرائيل) خطوط حمراء، نستذكر بعضًا منها: تفجير  كتائب القسام موقع "كرم أبو سالم" العسكري الإسرائيلي، إضافة إلى تفجير دبابة "ميركافا"، والمُسيرات (أبابيل)، وكانت "وحدة الضفادع البشرية" التابعة للنخبة القسامية أكبر مفاجأة، التي نجحت في تنفيذ عملية الكوماندوز البحري "زيكيم" العسكري الإسرائيلي خلف الخطوط وكانت بمثابة ضربة موجعة للاحتلال، كذلك نجحت في التصدي لوحدة كوماندوز بحرية إسرائيلية في منطقة السودانية، وعملية "موقع صوفا" شرق رفح، وعملية "موقع أبو مطيبق" شرق المحافظة الوسطى، وعملية "موقع 16" شرق بيت حانون، وعملية "ناحل عوز" شرق الشجاعية، وأسر الجندي الصهيوني "شاؤول أرون"، في حين اختفت آثار الضابط هدار جولدن شرق مدينة رفح بعد عملية للقسام هناك.

فلا يقتصر الأمر على الجنديين المفقودين في غزة "هدار وشاؤول"، فقد سمحت الرقابة الإسرائيلية في يوليو 2015 بنشر نبأ اختفاء الجنديين الإسرائيليين "أفرها منغستو" من ذوي الأصول الأثيوبية، وهشام السيد، بقطاع غزة، بعد تسللهما من السياج الفاصل شمال القطاع، وفيما بعد نشرت كتائب القسام صورة لأربعة جنود (هدار غولدين، وأورون شاؤول، وأفرها منغستو، وهشام السيد) وقالت إنها: "لن تقدم أي معلومات مجانية حولهم لأي طرف دون ثمن".

إن قدرة حماس على الاحتفاظ بالجنود الأسرى طوال هذه السنوات التسعة، بهدف إنجاز صفقة تحرير أسرى مشرفة على غرار صفقة “وفاء الأحرار”، يدلل على فشل كل الجهود الاستخبارية للاحتلال، وإخفاقه في محاولاته المستميتة في العثور عليهما واستعادتهما، وفي المقابل تثبت حماس أنها لم تفرط بقضية الأسرى لرمزيّتها، إذ تعتبرها من الثوابت الوطنية الأولى، وفي كل مناسبة تجدد بيعتها مع قضية الأسرى، التي تجاوزت المرحلة العسكرية، لما سببته للاحتلال من صداع مزمن، وإخفاق في النواحي الأمنية والسياسية، وقد خلقت أزمة عدم ثقة بين أهالي الجنود وحكومة الاحتلال لم تنته حتى اليوم بسبب تعنتها.

إن كل ما حققته المقاومة في معركة “العصف المأكول” يأتي في سياق مفهوم الإعداد الجيد وما أظهرته من دافعية عالية لدى المقاتل الفلسطيني على التضحية والشجاعة، أدى إلى تآكل “الردع” الإسرائيلي وقد انعكس آثاره على نفوس جنود الاحتلال بالتراجع والتقهقر، ليس فقط في أثناء المعركة ذاتها، بل لاتزال ترفض قادة المنطقة الجنوبية لجيش الاحتلال الدخول البري للقطاع، خوفًا من التكلفة والخسائر في الأرواح وربما يؤدي الأمر إلى وقوع المزيد من الجنود في كمائن حماس، وقد ظهر هذا الأمر جليًّا في معركة "سيف القدس" عام 2021، حينما كان الاستخدام السيىئ لذراع البر ضمن الخدعة المعدة مسبقًا "خطة برق/ مترو حماس" والخشية من الاشتباك البري المباشر فتكون بمثابة استدراج أو“جرة إجر” لتوريط الجنود في معركة برية، ومنذ ذلك الحين يرفض الجنود والقادة العسكريون الإسرائيليون مجرد طرح فكرة دخول قطاع غزة، من شدة الهول والخوف من جحيم المقاومة، لأن الأمر أشبه بدخول غرفة الموت أو الانتحار المتعمد.

كانت غزة وما تزال تمثل قلعة شامخة من المقاومة والصمود وصخرة تتحطم عليها كل المؤامرات، بالرغم من الحصار المفروض عليها، وكل ما تعانيه من الدمار الذي أحدثته الحروب العدوانية المتلاحقة، لكنها لم تستسلم ولن تخضع لتهديدات الاحتلال، وقد استطاعت المقاومة اليوم  بكل جدارة تحقيق التوازن العملياتي للقوة مع الإحتلال الإسرائيلي لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فنقلت الصراع من مراحل النكسة والنكبة إلى الانتصارات، وإلحاق الهزائم بالاحتلال بعد أن تآكلت قوته الردعيّة على مدار الحروب التي شنها على غزة، وأصبح يحسب ألف حساب للمقاومة عند التفكير بشن عدوان، وقد انتقلت هذه الصورة إلى الضفة المحتلة التي انطلقت على درب غزة بمقارعة الاحتلال في كل مدينة وقرية وشارع.