فلسطين أون لاين

مقبرة الانقسام الفلسطيني

في فلسطين، نعم فلسطين، التي يحتلها الاحتلال ويسعى لفصلها عن محيطها العربي والإسلامي ويعزلها عن جغرافيا بما عرف بأرض 1948 وأرض 1967؛ وصولا إلى غزة والضفة الغربية من خلال اتفاقية أوسلو التي وُقّعت بين منظمة التحرير الفلسطينية وقوات الاحتلال في أيلول عام 1993، تلك الاتفاقية التي عزلت فلسطين وبات الانقسام الجغرافي سيد الموقف بعد أن كانت انتفاضة الحجارة 8/12/1987 قد وحدت الساحة وعززت الوحدة التي تمزقت في إثر انقسامات عديدة في الحالة الثورية أفرزت انشقاقات في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي نجمت عن تبعية لأنظمة أو ترتيبات حول آلية وكيفية المقاومة والنضال.

جاءت أوسلو التي أخذت أمننا وحبنا وأرضنا ولم تجلب لنا إلا تعميقا للانقسام الجغرافي واصطفافا حزبيا ورصاصا تعدد زناده وهدفه فلسطين التي خريطتها جميلة في القلوب مشوهة على الورق الدولي، فلا بحر ولا نهر ولا بحيرات ولا صحراء، جردتها تلك الاتفاقية اللعينة ليكون الموت للكرامة والحرية والتحرر واختزال المشهد في بقعة الضفة الغربية وبقعة غزة.

وهنا تجددت حكاية الانقسام ليكون بين معارض لاتفاقية أوسلو -وهي كل الفصائل الفلسطينية والشعب بكل فئاته- وفئة باتت تعرف لاحقا بفريق أوسلو، وتكشفت رويدا رويدا تفاصيل الاتفاقية ليصبح المشهد نكبة ونكسة.

هناك سال الدم الفلسطيني بتاريخ 18/11/1994 في مسجد فلسطين في غزة على يد أجهزة أمن السلطة، والتبرير حينها أنهم أطلقوا الرصاص الحي لعدم وجود قنابل غاز معهم، بعدها لم يكن التركيز على تعزيز الوحدة الوطنية، بل ذهبت السلطة بعيدا، فقال المدير العام للشرطة الفلسطينية آنذاك غازي الجبالي كلمته المشهورة عام 1996: "سنجتث حماس والجهاد الإسلامي من الجامعة الإسلامية؛ من المجمع الإسلامي؛ من كل مكان"، هناك تعززت النظرة الشعبية والقناعة بأن أوسلو لن تكون إلا فقط للاقتتال الداخلي وخلطة أمريكية للانقسام وتعزيزه، تطورت الأمور لاعتقالات واسعة في صفوف حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجهاد الإسلامي، وحتى طالت عددا من قيادات حركة فتح الذين عرفوا آنذاك من بيان العشرين الذي وقعوا عليه مستنكرين إبرام اتفاقية أوسلو ورافضين لحالة الفساد التي استشرت بين شخصيات نافذة في السلطة.

وجاءت انتفاضة الأقصى عام 2000 لتكون محطة مهمة في توحيد الشارع الفلسطيني وإعادة البوصلة إلى موضعها الطبيعي، وتصاعدت الأحداث وكانت صفعة كبيرة للاحتلال ولسياسة فرق تسد، تلك السياسة التي ما زالت أمريكا تطورها بعد أن عاش عليها الاستعمار لعقود، هناك باتت المؤامرة على الشهيد الراحل ياسر عرفات لأنهم أدركوا جيدا أن الانتفاضة تنسف كل مخططاتهم التي يهدفون منها إلى إشغال الفصائل في حكم ذاتي مجرد من التحرير والتحرر والسيادة والهيبة والوحدة. صدمة كبيرة للاحتلال حينما كانت أولى الطلقات من الأسير نائل ياسين وهو أحد أعضاء الأجهزة الأمنية في دورية الارتباط التي كانت تسير جنبا إلى جنب مع دورية الاحتلال فيما كان يعرف بالدورية المشتركة وكان ذلك في تاريخ 29/09/2000.

تلا ذلك خلايا مشتركة لكتائب القسام وسرايا القدس وكتائب الأقصى وأبو علي مصطفى، تحول التنسيق الأمني إلى التنسيق المقاوم، التقت الدماء والأيادي وتكاتفت الجهود، وتراصت الجبهة الداخلية وازدادت صلابة، وحاول كثيرون في العالم ممن يدعمون إسرائيل أن يعيدوا عقارب الساعة إلى ما قبل 28/09/2000، وأعدوا خططا ومبادرات لذلك حتى يتوقف كابوس الوحدة الفلسطينية ومقاومتها.

التحم الشباب العربي في المعركة وباتوا يدخلون لفلسطين يفجرون الباصات ويطلقون النار من كل جانب.

أُنهكت إسرائيل ونسفت الانتفاضة مشهدا من أجله عملت إسرائيل لعقود كي تروض الناس عليه، اتفاقيات سلام ومخيمات بذور السلام ومركز بيرس للسلام ووفود تطبيع ومسارات كثيرة، فقط لتخدر شعوب العرب والمسلمين ولتوهم العالم أن مشكلة فلسطين حلت وأن قيادتها معنا في مشروع السلام.. هدمت الرواية وتكسرت الفبركات وعادت الحقيقة التي لا يحبون.

قرار باغتيال كل القيادات وعلى رأسهم الشهيد الراحل ياسر عرفات؛ ذاك الذي اختلف معه كثيرون ولكنهم توحدوا في خندق معه حينما قاد ومعه قيادات الفصائل الانتفاضة، بدأت عمليات التشويه له أن الانتفاضة جلبت الدمار للشعب وأنه انتحر بشعبه ودمرهم، وكل هذه الدعايات الأمنية أثناء الحروب ليتم الاستفراد في ظل عقوبات جماعية قاتلة لكل شرائح الشعب بقوة مفرطة حتى جاءت مرحلة ما بعد عرفات.

2005 انتخابات قاطعتها كل الفصائل الفلسطينية وأجزاء كبيرة من حركة فتح التي من بين أفرادها من اشتبك وأطلق الرصاص على محمود عباس، على أرضية الجدل الذي كان في قضية استحداث منصب رئيس الوزراء لتهميش ياسر عرفات، وقمة العقبة التي عقدت بين عباس وشارون في ظل حصار ياسر عرفات، وصولا إلى ما أعلنته أمريكا علانية من خلال الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن حينما قال يجب استبدال قيادة السلطة.

هناك كانت صدمة وانقسام بات يعود للواجهة من جديد في الساحة الفلسطينية، وهذه المرة بعد استنزاف كبير للدماء والحياة العامة وعشرات آلاف المعتقلين والشهداء والجرحى والمبعدين والمهدمة منازلهم والمشردين.

بعد الانتفاضة الأولى كانت جهود كبيرة تبذل لفرض أوسلو وخلق الانقسام، فدملته انتفاضة الأقصى لتعود "كونداليزا رايس" بعد انتفاضة الأقصى بالفوضى الخلاقة التي جاءت على وقع تفاهمات "جورج تينت" التي من خلالها اعتقلت السلطة خلية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي اغتالت وزير السياحة الإسرائيلي "رحبعام زئيفي" في تاريخ 17/10/2001، وتفاهمات "الجنرال بينز" وغيرها من التسويات التي حاولت أمريكا أن تضع خططها البديلة فيها لوقف الخطر وهو الوحدة الوطنية والمقاومة.

جاء عام 2005 وحمل شعار الإعمار والبناء والانتخابات بعد جدل كبير على فكرة قرار الحرب والسلم وفشل المساعي العربية وحتى مبادرة السلام العربية وغيرها، وأصوات باتت تقول "شركاء في الدم شركاء في القرار" حتى جاء التوافق على انخراط حماس في خوض الانتخابات التشريعية والمحلية في إطار "يد تبني ويد تقاوم" و"الإصلاح والتغيير".

هناك تعزز الانقسام الاجتماعي؛ لأن العقل الباطني لنا نحن الفلسطينيين وجزء من العالم العربي الذي كانت مشهورة في أوساطه أنه لا يوجد زعيم سابق بل راحل دلالة على انعدام الديمقراطية والانتخابات، ولأن الحزبية متعززة في عقلية الجماهير، ولأن حركة فتح تعد نفسها من جلب السلطة وصعب عليها تسليمها لفصيل آخر، ولأن حماس تعد نفسها بيت المقاومة لا يمكن فيه التليين للمواقف بشأن "إسرائيل". هناك نجح المدبر الأمريكي مرة أخرى في إعادة الانقسام للواجهة، وهذه المرة بمعادلة معقدة، أمريكا التي تمنع الانتخابات بطرقها وأساليبها ومالها السياسي عام 2021 هي نفسها التي سمحت وسهلت تنفيذها عام 2006، وكان عرابها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر .

انتخبت حماس بأغلبية وحصلت على 76 مقعدا من أصل 132، وهناك ظهر فورا محمد دحلان قائد جهاز الأمن الوقائي في غزة بعبارته الشهيرة "بدي ألعبهم خمسة بلدي"، وبدأت خلايا وفرق الموت تجوب الشوارع، وبات الانقسام خطيرا جدا بعد أن رفضت الفصائل تشكيل الحكومة مع حركة حماس فشكلتها منفردة، وفورا جاء قرار الرباعية المكون من الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، التي أُنشئت عام 2002؛ بضرورة الاستجابة لشروطها وأولها الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وتسليم الفصائل سلاحها كي يتم الاعتراف بحكومة فقط، لا صلاحية لها إلا أنها حكم ذاتي ولا يوجد فيها حتى شرطي مسلح.

فبدل أن يصطف الجميع ليدافع عن خيار الديمقراطية وثقافة فلسطين الرافضة للاستسلام بات المشهد خطيرا، ولم تنفذ الأجهزة الأمنية أيًّا من قرارات وزير الداخلية السابق الشهيد سعيد صيام، وبات رئيس الوزراء الفلسطيني المنتخب يجلس على الرصيف عند معبر رفح، والحصار اشتد والعقوبات ازدادت ولم يعد مجال لحوار في مكة أو مصالحة، فالرئاسة اعتبرت نفسها ندًا وباتت تجهز بالمحكمة الدستورية وتصدر المراسيم، وباتت حماس تجهز قوتها التنفيذية وتفرض القوانين، وبات صندوق الاقتراع مجرما بدل أن يدافع عنه الجميع، وبات الوزير المنتخب "طرطورا" والمجلس التشريعي لا حصانة لنوابه ويختطفون أو يضربون ويمنعون من دخوله.

هناك اختلط الحابل بالنابل، وفرح الأمريكي كثيرا، فلا أعطانا ديمقراطية ولا أمنا ولا أرضا ولا كرامة، فبات السلاح والشارع والفوضى سيد الموقف في فلسطين التي لم يجف دم الياسر والياسين وأبو علي فيها، ولم تمحُ أمطار الشتاء بوسترات الأسرى والشهداء في شوارع رام الله وغزة، والأخطر من ذلك لم يزل الاحتلال السواتر الترابية عن أكثر من 300 قرية ومخيم ومدينة، وأكمل الجدار في تلك اللحظات وعزز الاستيطان.

جاء حزيران الموت والقهر، عاد الانقسام برائحة أقوى للدم وبقلوب تحقد وتتغذى على فتنة صانعها ابتسم لمسرحية كتب فصولها وهو جالس في مقعده، فتدمرت كل الإنجازات ولم ينتهِ حبر قلمه وقهوة فنجانه في سفارة تنشر الدم والفتنة وتبتز الساسة وتعزز الانقسام.

"دايتون" و"مولر" وخطط قبلهم وبعدهم كلها فقط تستهدف تقوية الأمن والتدريب وتوجيه الإعلام؛ لتعيش فلسطين سنوات طويلة تتبادل فيها الأطراف سبب الانقسام؛ وتعطي صورة عن مشهد ما زال في الأذهان حتى عام 2012 حينما دوت صفارات الإنذار في القدس، صعق من صنع الانقسام وتأكد أن الشعب يعيد لملمة جراحه ويقوى بوحدته، باتت الثقة عالية والجنود أسرى وصفقة تبادل جرت واحترام بين الفصائل يزيد، وحب للوطن تنامى.

الحياة الثورية اتصلت بالبوابات في الأقصى وانتصار المرابطين وصولا إلى سيف القدس عام 2021، هناك الفلسطيني الذي رد على "فيتو" أمريكا على الانتخابات ووحدة الشعب وتوافقه وقراره بتجاوز الجراح ورأب الصدع، نجح في إعادة البوصلة لطبيعتها في القدس والداخل وغزة والضفة والشتات، حناجر كل الألوان تهتف للأقصى وللمقاومة.

بعدها وبتاريخ 24/06/2021 اغتيال نزار بنات الصوت في وجه الفساد، فكانت ردة فعل الشعب أن كفى لهكذا هدر للحرية أو خوف من التوافق ونبذ الفساد، توسعت خطة الشعب فجاءت الكتيبة والعرين وبات الاستنزاف والجبهات، وما زال قرار الشعب وحدة؛ وقرار الأمريكان انقساما وفوضى.. ترى متى سننهي جرح نزار الذي حارب الفساد، وأحداث انقسام خلفت الموت عبر عقود الثورة؟

اليوم فرصة كل غيور لا يؤمن بالإقصاء، بل يريد التعددية وتداول السلطة وحماية المقاومة، اليوم الغرفة المشتركة في كل فلسطين، وصفعة الشعب بوحدته وجبهاته وبعمقه الذي يعزز المقاومة.. لا الانقسام والتجريم.

المصدر / فلسطين أون لاين