وقف إبراهيم خمايسة أمام نجله عدي (22 عامًا)، محاولاً ثنيه عن الخروج من منزله الواقع ببلدة "اليامون"، قضاء جنين شمال الضفة الغربية، حينما وصلت عقارب الساعة في دورانها عند الواحدة ظهر الاثنين الماضي، محذرًا إياه من أن الأوضاع مختلفة هذه المرة عن أي اقتحام آخر: "في اشتباكات، واجتياح وين بدرك تروح!؟"، أخبره أنه ذاهب عند أصدقاء يسكنون على مقربة من المنزل.
"اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا يا الله"، بهذا الدعاء رد على والده، وتلا عليه آية رددها كثيرًا على مسامعه: "ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يرزقون"، سكن قلب الأب، وانطلق الابن بسيارته نحو أصدقائه، وإلى ساحة المعركة.
مرت ساعةٌ وساعتان على خروج عدي من منزله، تزامنتا مع اشتداد القصف الإسرائيلي، وتوالت الغارات الإسرائيلية على مدينة جنين ومخيمها، كان الضجيج الذي تحدثه أصوات الانفجارات الناجمة عنها يبث الخوف في قلب خمايسة الأب، يجتاح قلبه كما تجتاح مدرعات وآليات الاحتلال وجرافاته العسكرية مخيم جنين، زاده عدم رد ابنه على اتصالاته الهاتفية، التي لم تتوقف حتى مساء الاثنين، وأعلن "فقدان الاتصال" به.
فقدان الاتصال
تحت أصوات القصف، وزخات الرصاص حاول خمايسة الوصول إلى أي من النقاط القريبة من المخيم، وفي كل مرة كانت قوات الاحتلال المتمركزة تمنعه من الوصول، تنقل بسيارته من مدينة جنين إلى مستشفيات محافظات نابلس وطولكرم أملاً في البحث عن نجله بين المصابين ليهون عليه مصابه، لكنه لم يعثر عليه على أسرّة المستشفيات.
تعلق بخيط أمل ضئيل، وغفى خمايسة بعينين أنهكها السهر ومشقة التعب بعدما غلبه النعاس، واستيقظ مع بزوغ فجر الثلاثاء الماضي، لم يفكر بشيء سوى بنجله الأكبر، وأنطلق محاولاً العثور على "عدي".
اقرأ أيضاً: 12 شهيدًا و117مصابًا ودمار واسع جرّاء العدوان على جنين
عندما وصل إلى النقطة التي كانت ساحة للمواجهة، استمر بحثه نحو عشر دقائق في ساحة تغيرت معالمها بفعل القصف والعدوان والتجريف، كان يتفقد بين السيارات وأسفل البيوت، حتى عثرت عيناه على هيئة جسد تغطيه الأحراش.
تسارعت خطواته بالوصول إليه، ليجد "عدي" مستلقيًّا على بطنه، وحوله بركة دماء، جفت من كثرة النزيف، اختلطت برمال الأرض، ممدًا بلا حركة، تحسس النبض فوجده بلا نفس، وقف وكأنَّ الحياة تجمدت أمامه، لم يتوقع أن تكون هذه النهاية، خرج للبحث عنه، وعاد يحمل جثمانه.
"أصيب ابني الساعة السابعة من مساء الاثنين، ومعه شابان قامت طواقم الإسعاف بإسعافهم، بينما منع الاحتلال سيارات الإسعاف الاقتراب من نجلي الذي يبعد عنهم عدة أمتار، أو أن تلك الطواقم لم تلاحظه بسبب سقوطه بين أحراش وأعشاب، لأن الطواقم قالوا لي: "أنهم بحثوا عنه في تلك المنطقة ولم يجدوه" يثقل الفقد صوت والده وهو يروي لصحيفة "فلسطين" ما حدث.
بينما كان الكثير من أهالي جنين يحاولون النجاة من القصف أو الابتعاد عن مناطق الاشتباك، كان خمايسة يقترب من ساحة المواجهة رغمًا عنه، لم يستطع البقاء في المنزل، وهو لم يضع نقطة النهاية على مصير نجله، فأراد التأكد بنفسه بعد عدم وصول أي نبأ عنه.
رحلة بحث طويلة
خلال رحلة استمرت نحو 15 ساعة في البحث عن نجله، كان خمايسة معرضًا بأي لحظة أن يلحق به، تتحرك المشاهد أمامه مرة أخرى قائلاً: "كانت أعداد آليات جيش الاحتلال كبيرة، خرجت من المنزل لأن المجموعات الإخبارية لم تنشر اسم نجلي، في الخارج أطلق جيش الاحتلال النار علي عدة مرات، كلما حاولت الاقتراب من منطقة الاشتباك، كنت أرى الحواجز، سيارات مدمرة، أهالي تشرد".
بصوت ممزوج بالبكاء، يقفز مشهد عثوره على نجله أمامه: "وجدته في شارع "حيفا" في منطقة البلد بمدينة جنين بين أحراش، وكان مصابًا بثلاث رصاصات، واحدة بالقلب، وأخرى بالبطن، والثلاثة بيده، تملأ الإصابات جسده وكان مستلقيًا على بطنه، واضح أنه نزف كثيرًا، لحظة صعبة أن تجد نجلك بعد بحث طويل مستشهدًا وتتلقى أنت الصدمة".
"شاب مثل الوردة" بهذا الجمال وصف نجله، الذي امتاز بالابتسامة والمحافظة على صلاته، لم يكن مجرد ابن، بل "صديقًا لوالده" وكان ذراعه الأيمن في زراعة أرضهم، فنشأت بين عدي والأرض حكاية عشق توارثها عن والده، الذي بدوره ورثها عن جده.
اقرأ أيضاً: بعد يومين من العدوان.. الاحتلال ينسحب من جنين
لدى عدي شقيق وأربع شقيقات، يعتبره والده بأنه "الأب الثاني للبيت" الكل يحبه، يعطف على شقيقاته ووالديه، تشعر بجرح غائر مغروس في قلب والده متحدثًا عن طموح نجله: "كان حلمه أن ينال الشهادة، يوم عيد الفطر ذهب وأصدقاؤه لتنظيف المقبرة التي تضم العديد من أصدقائه الشهداء".
تجثم الذكريات ثقيلة على قلب الأب المكلوم في أثناء استحضاره مشاهد مرافقة نجله عدي له في العمل بالأرض: "كنا نذهب للعمل ولا نجد أجمل من الأرض لنشعر في السعادة بين أحضانها، تحت لسعات الشمس، نحتسى الشاي والقهوة هناك، نزرع كل شيءٍ وكان يساعدني، ونعود في المساء، ونخرج معًا، وكنت أرافقه أحيانًا عند أصدقائه، كان يحب الأرض كثيرًا".