لم تنطفئ جذوة المقاومة في مدينة جنين ومخيمها شمالي الضفة الغربية المحتلة على مدار عقدين من الزمن، في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتواصل، ما جعلها أسطورة في النضال الوطني ومصدر إلهام للشباب الثائر في المدن الفلسطينية الأخرى.
وتتعرض مدينة جنين منذ فجر أول من أمس، إلى عدوان إسرائيلي عسكري ممنهج أطلق عليه الاحتلال اسم "بيت وحديقة"، في وقت لا تزال المقاومة تتصدى له بالرصاص والعبوات الناسفة.
ويشارك في العدوان المتواصل لليوم الثاني تواليًا، قوات جوية وبرية إسرائيلية، طالت نيرانها منازل ومساجد وبنى تحتية وشوارع في جنين، عدا عن تهجير الآلاف من الأهالي قسرًا، وارتقاء 10 شهداء وإصابة أكثر من 100 آخرين، وفق إحصائية وزارة الصحة برام الله حتى ظهر أمس.
وبحسب مصدر عسكري إسرائيلي، فإن العدوان يستهدف بؤر المقاومة في جنين وإنهاء مكانة المدينة والمخيم كمأوى لها، وهو ما لم يتمكن الاحتلال من تحقيقه، إذ إن قواته لا تزال على أطراف المخيم ولم تتمكن من اقتحامه بفعل تصدي رجال المقاومة.
ويعد العدوان الإسرائيلي الذي أطلقت عليه المقاومة اسم "بأس جنين"، هو الأكبر ضد مخيم جنين بعد عدوان "السور الواقي" الإسرائيلي التي استهدفه إلى جانب محافظات الضفة الغربية عام 2002.
"عش الدبابير"
ومنذ اندلاع شرارة انتفاضة الأقصى كان مخيم جنين محط أنظار المقاومين، وعرينا يجمعهم من جميع الفصائل، إذ خرجت منه العديد من العمليات الفدائية، ما جعل الاحتلال يطلق عليه اسم "عش الدبابير".
ففي فبراير/ شباط 2002، حاصرت عشرات الدبابات الإسرائيلية مخيم جنين من كل الاتجاهات وبمساندة الطائرات، واقتحمت وحدات من القوات الخاصة منطقة الجابرات جنوب المخيم، واستمر ذلك يومين، وانتهى العدوان العسكري بمحاصرة نحو 15 مسلحًا في "حي الحواشين"، ما أدى إلى ارتقاء 22 شهيدًا، من بينهم محمود طوالبة وقيس عدوان.
اقرأ أيضاً: بعد يومين من العدوان.. الاحتلال ينسحب من جنين
وفي إثر ذلك زادت جذوة المقاومة وخاصة العمليات الفدائية التي خرجت من المخيم، إذ شهد مارس/ آذار في العام ذاته، ثلاث عمليات فدائية في الداخل المحتل أسفرت عن قتل 60 إسرائيليًا وجرح 200 آخرين.
وفي الثالث من أبريل/ نيسان 2002، شن الاحتلال عدوانًا عسكريًا أطلق عليه اسم "السور الواقي"، في مخيم جنين، انتهى بعد 11 يومًا بمعركة بطولية قُتل فيها 13 جنديًا إسرائيليًا وجرح العشرات، وارتقاء 250 مواطنًا، وتدمير أجزاء كبيرة من المخيم.
ومنذ ذلك الوقت تصاعدت وتيرة المقاومة وحالة الاشتباك المستمرة بين المقاومين وجيش الاحتلال الذي يحاول بين الفينة والأخرى اقتحام مخيم جنين، ضمن مساعي القضاء على المقاومة.
وفي سبتمبر/ أيلول 2021، شكّلت حادثة تحرير 6 أسرى أنفسهم عبر نفق من سجن "جلبوع"، وجميعهم من جنين، نقطة فارقة في مكانة المدينة ومخيمها، وباتت الأنظار تتجه نحو إمكانية أن يكون الحاضنة لهم في حال قدرتهم على الوصول إليه.
وفي مايو/ أيار من العام ذاته، وصف الاحتلال مدينة جنين بأنها "غزة المُصغرة"، وقد دأبت على تفعيل مفهوم "الغرفة المشتركة" في المخيم والسلوك المقاوم فيه، إذ إن مراقبين إسرائيليين قالوا: إن معركة "سيف القدس" امتد تأثيرها إلى الضفة الغربية وخاصة جنين.
أما في مارس 2022، فقد شنّ الاحتلال عدوانًا على جنين ومدن شمالي الضفة أطلق عليه اسم "كاسر الأمواج"، لكبح تصاعد وتيرة العمليات الفدائية التي خلفت 31 قتيلًا إسرائيليًا ومئات الجرحى طيلة العام.
ومنذ بداية عام 2023، شهدت مدينة جنين ومخيمها نحو 20 عدوانًا عسكريًا إسرائيليًا، تراوحت بين اقتحامات واسعة وعمليات خاطفة، أبرزها في 26 يناير/ كانون الثاني، أسفرت عن ارتقاء 10 شهداء بمحيط مخيم جنين، سبقها تسلل قوة خاصة استخدمت شاحنة مموهة بشعار شركة ألبان.
صاحبة اليد العليا
يقول الكاتب والمحلل السياسي ثامر سباعنة: إن جنين ومخيمها كانت ولا تزال صاحبة اليد العليا في مواجهة المحتل في المدن والقرى والتجمعات في شمالي الضفة الغربية منذ عشرات السنين.
اقرأ أيضاً: دعوات للمشاركة الحاشدة في موكب تشييع شهداء جنين
وأوضح سباعنة في حديث لصحيفة "فلسطين" أن جنين تعرف بأنها معقل المقاومة، وقد خاضت معركتها الكبرى في عدوان "السور الواقي" عام 2002، ثم أعقب ذلك بروز ظاهرة "العسكرة المنظمة" في السنوات الأخيرة، إذ أصبح الكثير من الشبان يلجؤون لشراء السلاح ويواجهون به قوات الاحتلال المقتحمة.
وأشار إلى أن أحداث معركة "سيف القدس" التي خاضتها المقاومة في غزة دفاعًا عن القدس والمسجد الأقصى في مايو 2021، أدّت إلى نهضة روحية لجيل الشباب في جنين خصوصًا، الذين لم يعايشوا مرحلة الانتفاضة الثانية، ومرحلة حلّ وقمع التنظيمات الفلسطينية التي تتبنى نهج المقاومة، وعلى رأسها حماس بعد عام 2007.
ورأى العدوان الإسرائيلي الحالي ضد جنين بأنه "فاشل"، إذ لن يحقق الاحتلال هدفه بإنهاء المقاومة.
وأيّد ذلك الناشط السياسي والأسير المحرر من جنين محمد حمدان، بقوله: إن جنين امتازت بصد أي عدوان على مدار التاريخ بشجاعة وصلابة، مشيرًا إلى أنها لم تستسلم لمحاولات تطبيق اتفاقيات السلام الاقتصادي وإلهاء الأهالي بذلك.
وبيّن حمدان لـ"فلسطين" أنه في هذه المرحلة أنشأت جنين جيلًا على سمعة معركة عدوان "السور الواقي"، والسير على خطى الشهداء كجمال أبو الهيجا ومحمود طوالبة، الذين أصبحوا مصدر إلهام للشباب الثائر.
وأوضح أن جنين تتجه في الآونة الأخيرة إلى العمل المقاوم المنظم بدلًا من الحالة الفردية الذي أصبح أكثر دقة، لافتًا إلى أن المقاومين باتوا يأخذون روح المبادرة في مجابهة الاحتلال وليس فقط صد الاقتحامات.
وشدد على أن الاحتلال لن يستطيع ثني الشعب الفلسطيني عن ممارسة نضاله وحقه المشروع في تحرير فلسطين، عادًّا أن تنظيم المقاومة بات يشكل ناقوس خطر وإرباك للمحتل.
وأشار إلى أن المقاومة ستخرج من جديد بعد العدوان الإسرائيلي الحالي وسترمم ذاتها وتعود بقوة أكبر، وستزداد الحاضنة الشعبية حولها، ولن يحصل الاحتلال على مبتغاه بالقضاء عليها.
وتأسس مخيم جنين عام 1953 ضمن حدود بلدية جنين، وينحدر أغلب سكانه من منطقة الكرمل في حيفا وجبال الكرمل التي هجر سكانها في نكبة عام 1948.
وبلغت مساحة المخيم عند الإنشاء 372 دونمًا، واتسعت إلى حوالي 473 دونمًا، وبلغ عدد سكانه عام 1967 نحو 5019 نسمة، وفي عام 2007 وصل إلى 10371 نسمة.
وحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد سكان المخيم في منتصف عام 2023 نحو 11674 لاجئًا.